القليل الدائم خير من الحماسة الهائمة

  • 5/21/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كنا صغاراً وأحلامنا كبيرة، تكفينا مشاهدة بروسلي لنتخيل أنفسنا مُقاتلين من الطراز الرفيع، ما إن ينتهي الفيلم حتى نثور حيويةً، كان ذلك وحدهُ من شأنه تحفيزنا على الإقبال على الحياة بنظرةٍ مختلفةٍ، فنُقرر فجأةً الولوج إلى أقرب نادٍ رياضي، وكلنا حرارة وتوهج ونُصْبَ أعيننا مشروع بروسلي، نحلمُ فجأة بمرونة لا مثيل لها وقوة ضاربة وسرعة قصوى تُحولنا في رمشة عين إلى بروسلي الحي. كانت لنا الإرادة ربما والحلم، لكن لم يكن هناك من يأخذ بأيدينا ويوجهنا، ويُقنِّن عفويتنا وطاقاتنا، فنلج النادي الرياضي ونفِرُّ منه بعد الحصة الثالثة أو الرابعة. تُشاهد بعدها فيلماً عن ولدٍ فقد أبويه، فتبكي معه وتعتصر ندماً، وتقرر فجأة أنك لن تُغضِب أبويك بعد اليوم، فوراً تنطلق مسرعاً لتلبية طلب أمك، كُنت تلبي طلباتها من قبل، لكن بعد غمغمة وتأفف، أما اليوم فقد لامس الفيلم قلبك الطفولي وغيَّر نظرتك للحياة على الأقل ليومين أو ثلاثة. ثم تشاهد فيلماً عن الحب، لتصبح فجأة روميو القسم، وتبدأ فوراً في مراسلة جميلة القسم، من بين الأسئلة التي راودتني منذ صغري وأفسدت علي في بعض الأحيان متعة الفيلم الرومانسي: لماذا يقتصر الحب على فتاة جميلة، وهل كان ينجح فيلم الحب لو كانت البطلة the ugly betty؟ فكان هذا الأمر -وما زال- ينمي لبساً عندي في مفهوم الحب، حتى شِعر الغزل لا يَصلُح إلا مع فاتنة كاملة الأوصاف، هو ربما حب يندرج في إطار حب لمصلحة. والأمثلة كثيرة عن كُل ما كان يُحفزنا لفعل شيء ما يُغيِّر من مسار حياتنا، ولكنه كان تحفيزاً يدوم وقتاً وجيزاً، والسبب بسيطٌ: كنا نعطي أقصى ما لدينا في البداية فننهمك أو نمَلُّ بسرعة فيندثِرُ الحافز والدافع وننسى ما كنا ننوي فِعله ونتجه إلى اهتمامات جديدة تدوم أياماً وتموت هي الأخرى. كبرنا ولم نتغير كثيراً، أصبحنا ربما نهزأ بكل تلك الأفلام بعد أن فهِمنا مغزاها لكننا لم نتغير، يُحفزنا اليوم ربما محاضر أميركي متمكنٌ من علم النفس وخبير في تطوير الذات، له صولات وجولات ومحاضرات في كبرى الجامعات، ليتحدث فيأسِرك ويلمس فيك شيئاً يجعلك تقول: حي على التغيير، حيَّ على العمل والانتظام، فتتبع نصائحه أسبوعاً ثم كأن شيئاً لم يكن! ما يقوله المحاضر هو ليس مجرد كلام يأكل به الخبز في الجامعات، هو فعلاً أو غالباً كلام منطقي واقعي، وما يميز الأميركيين عن غيرهم في هذا المجال هو عمليتهم الواقعية، فهو أبداً لا يعطيك خلطة سحرية، ولكنه يعطيك قواعد من شأنها مساعدتك على ترتيب حياتك، على شكل خطابٍ محفِّزٍ قدر الإمكان، وغالباً أولئك الذين يُلقون هذه الخطابات هم مُدرِّبون رياضيون سابقون، دَأبوا على تحفيز اللاعبين في ظروف معينة غاية في الصعوبة. قد يكون من هذا المنظور الخطاب التحفيزي ناجحاً، سيمكّن اللاعب من خوض المباراة بحيوية وثقة عالية، تماماً كما كانت تفعل معنا أفلام بروسلي، ولكن هل من الممكن تحفيز الإنسان على المدى الطويل؟ إن أولئك الذين وصلوا لمبتغاهم ورفرف نجمهم عالياً -أيّاً كان مجال عملهم- قد جعلوا من ذلك الاهتمام الطارئ نمط حياة؛ قنّنوا تلك الرغبة والانفعال المؤقت ووضعوا برنامجاً لذلك الحافز، فأصبحوا يُفطرون به ويمسون عليه، وينامون ويستيقظون على ضجيجه يملأ رؤوسهم، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه، لكن في المقابل همشوا جوانب الحياة الأخرى، ولم يعيشوا إلا لحلمهم، وذلك حقهم وهم يُعتبرون فيما فعلوا نوابغ وعباقرة، فالعبقري وحده من يستطيع الاستغناء عن شهوات الحياة التي تشغل معظم وقت الناس العاديين. إن الأعمال التي تحب فعلها، في الحقيقة هي من تفعلك لست أنت من يفعلها، إن كنت تُحب الرسم فستجد نفسك فجأة منطلقاً في الرسم رغماً عنك، قوةٌ ما بداخلك لا تعلم مصدرها ستدفعك لفعل ذلك، سترسمُ كل ما أخذ منك الأرق، كلما حزِنت أو كلما بلغ فرحُكَ منتهاه، سترسم إذا مرِضت وترسم إذا ما استطعمت الصحة ورغد الحياة، ترسم وكلما خرج من بين يديك رسمٌ مميزٌ تساءلت أأنت من فعلت أم كائن ما بداخلك تجهل كُنهه؟! ولعل السر في تقنين الاهتمام وتوجيه الطاقات على المدى الطويل هو العمل القليل الدائم، القليل الدائم يكاد يكون سراً كونياً، فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، وفي ذلك خلْطة سحرية وطريقة مثلى لتأدية الأعمال الكبيرة دون تعب ومشقة، تجني ثماراً وفيرة بجهد قليل. نحن في ظروف لا تمكنك من العيش والعمل لحلمك وفقط؛ بل يجب عليك العمل من أجل لقمة العيش وفي الوقت نفسه تَبَنِّي الحلم وتَرْبِيَته، ورؤيته يكبر وينمو في ظروف مناسبة بعيداً عن الملل والضجر الذي بإمكانه قتل الإبداع وتقزيم الخيال؛ لذلك يبقى الحل في وضع برنامج لأعمال قليلة دائمة تتماشى وظروف حياتك. فرِّق أعمالك الكبيرة تسُد عليها، فإن أردت فعل أو تعلُّم شيء ما فلا تنطلق فيه دفعة واحدة؛ بل اجعل له روتيناً لا تتنازل عنه ولو 10 دقائق في اليوم أو اليومين، واترُكِ الوقت يمر ويعملُ عمله. ما وَجَبَ فعلاً تعلُّمَه والتمرن عليه هو كيف تنسى نَفْسَكَ بين ثنايا العمل القليل الدائم، وكيف تَصْنعُ السلام مع نفسك إن لم تر النتائج بسرعة، كيف تُطمئِن نفسك وتُرَبِّيها على النَّفَسِ الطويل، وتُقوي طاقة الصبر لديك، ويصبح العمل على أهدافك جزءاً منك لا ينتهي بالوصول إلى حلمك؛ بل يبقى حياً يرزق فيك ما حييت. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :