الكثير من الناس لم يكن يتوقع أن يمر الرئيس التونسي قيس سعيد إلى تنفيذ تهديداته بشأن حل المجلس الأعلى للقضاء وإصدار مرسوم بتشكيل مجلس جديد يكون على مقاسه ويخرج منه الرؤوس التي كانت تدافع عن المجلس ليس فقط بصفته هيئة منتخبة تمثل أهل القطاع، ولكن وهذا الأهم على أنه مقاطعة ذات حكم ذاتي لا حدود لها، وأن دور الدولة يقف عند توفير الرواتب والاستجابة لطلبات لا تتوقف بالترقيات المهنية والحوافز والعلاوات الجديدة. وضع الرئيس سعيد وراء ظهره كل خطاب التخويف والتيئيس من دخول عش الدبابير ومخاطره في الداخل وخاصة في الخارج. لم تفل بيانات الشجب والتنديد الصادرة من هنا وهناك من عزمه في تفكيك “دولة القضاة” كما سماها، وإفشال خطط كل الذين راهنوا على أن قطاع القضاء هو الجهة الوحيدة التي تقدر على الوقوف بوجه قيس سعيد وإفهامه أن القطاع الاستراتجي خط أحمر، لكن الرجل عبر الخط وفعل ما أراده، وصار الوضع الآن وضع ردود أفعال محدودة وتصريحات تصدر من هنا وهناك لم تمنعه من أن يروض الجسم الثاني الأكثر إقلاقا له بعد البرلمان. يمكنك بيسر أن تقول إن تفكيك المجلس الأعلى للقضاء مس في الصميم فكرة تعدد السلطات في الدولة الواحدة، وخاصة السلطة القضائية التي من حقها أن تنأى بنفسها عن التجاذبات وخاصة عن سطوة السلطة.. نظريا هذا كلام محمود، لكن على الواقع ستجد أن المجلس الأعلى للقضاء لو استمر في قيادة “دولته” لسنتين أخريين فسيضع عمليا أسس الانفصال عن الدولة كقوة جامعة لمختلف السلطات ومنظمة لها ويرجع لها القرار الأخير والحاسم في كل القضايا الخلافية وإلا صارت البلاد فوضى، وبدلا من وجود دولة مركزية ناظمة لكل الجهود، تصبح لنا دويلات صغيرة متنافرة ومتصارعة كل منها يعمل ما في وسعه على استضعاف الدولة وجلبها لتكون خادما له دون سواه. هل سيكون الدور على قطاع الإعلام والهيئات المنظمة له، خاصة أنه لعب دورا مؤثرا في احتضان فوضى التفكيك كشرط من شروط نجاح الإعلام الذي تحول إلى حلبة صراع للوبيات الفساد المالي والسياسي وقد اكتشفت الحكومات المتتالية بعد 2011 هذه الحقيقة، حيث وجدت نفسها ملزمة على استرضاء رؤساء الدويلات الصغيرة وكسب ودها خاصة بعد رفع الجميع لواء الاعتصامات والإضرابات وإجبار الدولة على تلبية المطالب صاغرة حتى أن القضاة استمروا في إضراب لأسابيع ولم يفكوه إلا بعد أن استجابت الحكومة صاغرة لمطالبهم. في هذه الصورة الكاريكاتورية هل يمكن الحديث عن دولة أو ديمقراطية أو فصل بين السلطات بمفهومه السياسي التقليدي السوي، طبعا لا، وحتى الذين يدافعون عما قبل 25 يوليو فالأمر مرتبط بموقف سياسي مناوئ لقيس سعيد ولفكرة تجميع السلطات في يد رجل قوي، لكن لو قدروا على ما فعل كانوا فعلوا مثله وأكثر. لقد حاولت النهضة وضع يدها على المؤسسات المختلفة، لكنها فشلت فاختارت أسلوب المناورة والتطبيع مع الأمر الواقع على أمل تحقيق الاختراق دون لفت الأنظار. إنها ثورة داخل الثورة من أجل استعادة الدولة التي ذهبت ضحية تطبيق سيء للديمقراطية. وبدل أن تكون هذه الديمقراطية عنصرا داعما لمتانة الدولة فقد جلبت إليها الفوضى وكسرت نظامها من الداخل، ولم يعد لديها من خيار للنجاة سوى حركة تصحيحية كالتي قام بها قيس سعيد. قد تختلف مع قيس سعيد في مسائل كثيرة، لكنك تجد نفسك إلى جانبه في سعيه لاستعادة الدولة بالقوة اللازمة بعد أن فشلت أياد مرتعشة كثيرة في الحفاظ عليها ومنع تهاويها، بل شاركت بسلبيتها في هذا الانحدار وغطت عليه وحولته إلى قوانين ومراسيم وإجراءات أكسبت القائمين عليه شرعية. أثبت الرئيس سعيد أنه لا يخاف أي جهة مهما كانت قوتها القطاعية أو دوائر ارتباطها الخارجي الظاهر والخفي، وهذا ما قد يقود إلى تسريع خطوات التفكيك لتطال هيئات وجمعيات ولوبيات وأحزابا كثيرة تشكلت بعد 2011 وساهمت بدور ولو صغير في تفكيك الدولة واستصغار دورها. وهذه خطوة مهمة قبل الحديث عن قانون جديد للانتخابات أو تنظيم استفتاء شعبي لمعرفة اتجاهات الناس، وهل هم مع النظام البرلماني أم الرئاسي. لا قيمة لانتخابات تعيد إنتاج الأزمة وتقوي الطفيليات التي توسع وجودها في مفاصل الدولة تحت عناوين براقة مثل قانون الأحزاب أو القوانين التأسيسية التي بنت هيئات قرارها في الخارج بالرغم من خطورة دورها وخطره التفكيكي على الدولة مثلما يجري تنفيذه منذ 2012. أثبت الرئيس سعيد أنه لا يخاف أي جهة مهما كانت قوتها القطاعية أو دوائر ارتباطها الخارجي الظاهر والخفي، وهذا ما قد يقود إلى تسريع خطوات التفكيك لتطال هيئات وجمعيات ولوبيات وأحزابا كثيرة ويمكن أن نفهم المسار الجديد لقيس سعيد من خلال الاطلاع على أهم ميزة للمرسوم الخاص بالمجلس المؤقت للقضاء الذي أقره الرئيس التونسي. المرسوم يتيح للرئيس صاحب الشرعية الأكبر من بين مختلف الشرعيات الصغيرة أن يتدخل بشكل عملي، للرئيس حق الاعتراض على ترقية القضاة أو تسميتهم، ما يعني أن هناك سلطة فوق أي سلطة أو أي شرعية صغيرة كما هو الحال في مختلف دول العالم. ويحظر المرسوم الجديد على القضاة “الإضراب وكل عمل جماعي منظم من شأنه إدخال اضطراب أو تعطيل في سير العمل العادي بالمحاكم”، ليعالج بهذا أهم نقطة في مشهد تفكيك الدولة، وهي لجوء الكيانات الصغيرة إلى لي الذراع لإجبار “الدولة الديمقراطية” الضعيفة على التنازل. الرسائل واضحة الآن وجلية والجهات التي ستصلها الرسائل معلومة أيضا حتى لو كانت الآن تقف إلى جانب الرئيس سعيد وتدعم موقفه من البرلمان والقضاء، فالتقاء المواقف ظرفيا لن يمنع من أن تمتد قرارات الرئيس لتفكيك منظمات وهيئات يمثل وجودها استضعافا للدولة، وليس مهما أكانت هذه المنظمة أو تلك موجودة في هذا البلد المتقدم أو ذلك. فالظروف مختلفة والفاعلون هنا وهناك ليسوا بنفس الوعي. كما أن تونس الآن بحاجة لاستعادة قوتها وقرارها ثم يمكنها لاحقا أن تعيد تقييم تجربتها وتعتمد التأسيس المرحلي بدلا من فوضى الحريات والديمقراطية التي أتت على الأخضر واليابس. والسؤال الآن من سيكون عليه الدور في المرحلة القادمة في مهمة التفكيك، هل هي هيئة الانتخابات أم المجالس البلدية (بقايا حكم الأحزاب) التي كشفت أن الحكم المحلي حكاية فضفاضة ما لم توفر له الدولة الإمكانيات اللازمة وتراقبه بشكل دقيق لمنع تحويله إلى عمل حزبي مقنّع، وخاصة الحيلولة دون بناء شبكة نفوذ قبلية ومناطقية تأكل الدولة من الداخل وتغذي نزعة تفكيك الدولة وتعطيها الشرعية. هل الدور الآن سيكون على الأحزاب السياسية التي أشرفت على عملية تفكيك الدولة بوعي أو دونه من خلال فوضى البرلمان التي عاشتها البلاد في السنوات الأخيرة، وخاصة في 2021، والتي جعلت التونسيين يطالبون بالخروج من هذا المأزق بأيّ شكل كان سواء أكان شرعيا أم غير شرعي، وهذا ما يفسر الحفاوة التي قوبلت بها إجراءات 25 يوليو 2021. هل سيكون الدور على قطاع الإعلام والهيئات المنظمة له، خاصة أنه لعب دورا مؤثرا في احتضان فوضى التفكيك كشرط من شروط نجاح الإعلام الذي تحول إلى حلبة صراع للوبيات الفساد المالي والسياسي. باتت كل الفرضيات ممكنة، لكن الثابت أن المرحلة القادمة ستكون محورا لمعركة استعادة الدولة، ومع تقدم الوقت سيظهر خصوم جدد للرئيس سعيد نجحوا إلى حد الآن في التخفي سواء بالوقوف في صفه أو من خلال تغذية المعركة من وراء الستار.
مشاركة :