في الجزء الثالث والأخير ضمن حديثنا حول المقارنة بين الكاتب الإيرلندي جون ملنجتون 1871 - 1909، والكاتب البحريني فريد رمضان 1961 - 2020، نركز الحديث عن فلسفة الموت في نصوص فريد رمضان، حيث نجده يقترب من تشكيل فلسفته الخاصة للموت في نصوصه المبكرة، فهو يفتتح أول نصٍ في كتابه (عطر أخير للعائلة) بذكر كلمة «الموت» مرتين في صفحة واحدة، مما يوحي بحضور الكلمة أمامه بقوة، وهو يتحدث عن (الموت) في حديثه عن «الورد، والعطر، والنشيد»، تمامًا كما فعل (سينج) في حديثه عن «الموت» في صورة الحب الخالد. يقول فريد: «تنسى الجهات التي تختبر الدم، وهو يطلع مثل الطّل في ليل النشيد. تنسى زهرة الثلج وهي تغادر مرفأ القلب قبل أن تهتف لما يصنعه الموتُ في جسد يختبرُ دقائقه الأخيرة». وفي ذات الفقرة يصنع مقابلة بين الموت والعطر والورد فيقول: «قبل أن تخطف اللقاء الأخير معه... وتنفي روحك لتصنع من هذا الورد عطرًا أخيرًا». وفي الفقرة الثانية لبناء فلسفة الموت التي يشكلها شعوره بكل لحظة من اقترابه إليه، كما يؤكد القريبون منه يعود ليؤكد جانبًا آخر من هذه الرؤية حين يقول: «كنا نريد أن نراك حيًّا مثل من مات منا قبل الموت» هكذا تلتقي رؤية الكاتبين في تجسيد «الموت» بما يشبه «حياةً» أخرى. إنها نظرة عميقة تجعل من الموت هروبًا من الشيخوخة، والمرض، وشبابًا دائمًا! يواصل فريد نسج هذه الثنائية بين «الموت» و«الحياة» عبر كلمات وجمل متقابلة نذكر بعضها: «جسر الحب» في مقابل «ليلة الذبح»، «هدنة القبر» في مقابل «شجرة العائلة»، «اللقاءات القصيرة» في مقابل «نهر العائلة». ولعلنا نجد فريد رمضان أكثر اقترابًا وبيانًا لتلك الفلسفة التي تحولت لهاجس يسكن كلماته ونصوصه في نصين قصيرين من مجموعة (عطر أخير للعائلة)، فهو يعنونهما بعنوانين يؤطران هذه الرؤية الواضحة الساكنة في عقله وقلبه، وهما: «وجه الموت»، و«القبر»، وهو يقترب من سلفه (سينج) بهذين العنوانين، وكأنه صاغ رؤية (سينج) للفصل الثالث بالقبر المفتوح، وحديثه عن القبر والموت المكثف الممزوج بالحب. وبهذين النصين تجد حديثًا مكثفًا عن الألم برائحة الطيب، ورؤية القبور برائحة المشموم، فهو يقول في النص الأول: «تعصف بك آلام أمك الثكلى برائحة الطيب، خطواتك تأخذك نحو النسيانات، نحو أخدود الموت الرابض قربك». وفي النص الثاني يكون أشدّ ما يكون اقترابًا من لحظة الموت التي تراودنا جميعًا ولكننا نحاول نسيانها بالهروب في زحمة الحياة، فهو يقول عن تلك اللحظة: «كانت المقبرة عامرة بالأصحاب، وكنت وحدي أفتش عن وجوه أحبتي الذين تركوني احتدم سؤال الرب وحيدًا... كانت المقبرة عامرة، وكنت وحدي».
مشاركة :