من يكتب في مراجل الموت القهري، يصبح الموت حدثًا عابرًا في حياته بقدر ما هو ملهما لتجربته الإبداعية في حقول القصة القصيرة والرواية والنص والسينما والدراما والوثيقة. هو الباحث عن أمل في الموت، إنه المبدع البحريني فريد رمضان الذي ظل يراوغ الموت ويخاتله بالحياة في بهو الكتابة ودهاليزها وأروقتها ومسالكها الدقيقة المتعرجة كما أبيقور في منحنيات التجربة والاكتشاف والاستقصاء، حيث تسقط كل المستقيمات والمتوازنات والمتقابلات أمام تفلتاتها المواربة المريبة من خطوط الجذب المطمئنة لاكتمالاتها النسقية حتى صار الموت الفكرة الرئيسة التي نهضت على تخومها أفكاره ورؤاه في الكتابة. يختبر روحه في الكتابة وكما لو أنه يُنهِض الميت فيها ويوقظه كي يحيا أوكي تولد الحياة من الموت بوصفه حياة تكتب فوق القبور لا في جحورها الضيقة. يكتب على (بياض) الأكفان حكايته عن الحياة ومعها، يعاكس ويشاكس الألم بحبر الأمل في الكتابة، لم يبدُ عليه الكبر بالرغم من السأم الثقيل المخاتل الذي وسم حياة الروائي ألبيرتو مورافي قبله، مثلما تبدو عليه علامات الطفولة الشقية التي وسمت حياة (زوربا) نيكوس كازانتزاكي. هو كائن برزخي يألف العيش بين الأضداد في الحياة، يتداوى بمحو الكتابة ويتهادى كلما اشتعل سعير السأم في روحه على ضفتي مخيلة الحصان الجامح لمحفزي النواة الأولى للكتابة لديه، قاسم حداد وأمين صالح. فريد رمضان.. خطوات يجرها ثقل السنين وكاهل لا ينوء بوطأة صخرة سيزيف وإن علت وتسامقت الذرى أو استطالت وتعرجت، وابتسامة يناوشها ويخالطها الحزن والقلق والأرق، ولكنه يجدد بالكتابة دماءه التي ينازعها الفصد في كل سانحة من يقظته وغفوته وغفلته وغيبوبته العابرة الاختيارية، فالكتابة وحدها لديه طفلة الحياة الأبدية التي لا تكبر ولا تشيخ، فلقد سبق حياته بكلمات الكتابة الهائلة في كتبه ورواياته، فكلما يغزوه ويداهمه المرض ويحاول أن يتمكن منه، تزداد عدد الصفحات والكلمات لمواجهته وكما لو أنه يريد أن يضمن حياة أخرى ما بعد الموت. كتابة الموت لديه أصبحت مشروعا في كل ما أصدره وما ينوي كتابته، وهي وثيقة القهر كما أراها في كتاباته ورواياته وخاصة في التنور، غيمة لباب البحرين، والبرزخ.. نجمة في سفر، والسوافح.. ماء النعيم وعطر أخير للعائلة – سيرة ناقصة والمحيط الإنجليزي، والسيرة الناقصة هي وهج الحياة المؤجل لما بعد الدار الآخرة.. تتعدد مشارب الكتابة لديه وأنهرها وضفافها ومساربها بحثا عن أمكنة آمنة كلما داهمه أو تربص به السأم الذي لم يجد غير أن يداويه بـ(درب المصل) القابل على أن يحيي ما مات منه يميل والقابل على أن يصبح حكاية تختبر في ورشة السأم والموت معًا.. جمعتني بك أيها الصديق الإنسان المبدع لقاءات وحكايات كانت الضحكة الماجنة عنوانا وميسما لتحدي كل عذابات الوقت وضرورة لأن نحيا مهما اشرأبت أعناق الموت والقهر وتجمرت عيناهما في لحظاتنا العابرة، فماذا يقترح الموت من كتابة بعد أن غادرها فريد؟ أوشك اللحظة أن أوقن بأن الموت يوشك أن يحيا بأفكار فريد رمضان، مثلما أوشك اللحظة بأن أوقن بأن القبر الذي يحتويه ساخطا على قبوه الضيق الذي أعد لاحتضان من يبعث الحياة في الموت.. لروحك السلام والحياة أيها المجبول بالأمل.. فريد رمضان..
مشاركة :