بعد مضي عقدين على الذكرى السنوية للهجوم بالسيارة المفخخة في عام 2005، والذي أدى إلى مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وأدى إلى إنهاء الاحتلال السوري، كان تاريخ الرابع عشر من شهر فبراير لحظة وقوف وتأمل للكثيرين في لبنان. وتأججت المشاعر خلال ذكرى ذلك اليوم في هذا العام أكثر من أي وقت مضى، لأن ابن الحريري سعد أعلن انسحابه من عالم السياسة، وكان قد تولى دفة القيادة من والده ليقود بعض الفئات من المجتمع السني بعد حادث الاغتيال. حمل نص استقالة الحريري نبرة تشاؤمية، حيث قال “أنا مقتنع بعدم وجود فرصة للبنان في ظل النفوذ الإيراني والانقسام الوطني وتضاؤل دور الدولة”، كما أبلغ أعضاء البرلمان أنه يتوقع تردي الأوضاع أكثر مما هي عليه، ونصح تيار المستقبل، الذي كان يتزعمه، بتجنب خوض الانتخابات لهذا العام، وعكس خطابه بصورة عامة نظرة سياسية سلبية للوضع القائم في لبنان. كما أن المشهد الاقتصادي يماثل المشهد السياسي في قتامته، فعلى الرغم من اعتماد الميزانية الحكومية في الأسبوع الماضي، إلا أن الاقتصاد في حالة انهيار كامل، حيث فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90 في المئة من قيمتها، وانتشر الفقر بين اللبنانيين وفقد الكثير منهم مدخراتهم، في حين تم تجميد بعض المدخرات الأخرى في الحسابات البنكية. فكرة لبنان كمجتمع متعدد الطوائف هي فكرة صحيحة، لكن الهيكل السياسي لتلك الدولة يمثل إشكالية ومع وجود الكثير من التحديات والصعاب التي تواجهها البلاد، فلا عجب أن يظهر مصطلح “الدولة الفاشلة” إلى السطح مرة أخرى، حتى أنه استخدم من قبل البعض من السكان في لبنان. ولكن، على الرغم من جاذبية ذلك المصطلح، إلا أنه لا ينمُ عن النشاط الفكري أو الرقي الثقافي، ولا تُرجى منه أي فائدة. وعادة ما تكون هناك أربعة معايير يقرر المحللون من خلالها ما إذا كانت دولة ما من ضمن الدول الفاشلة، وتلك المعايير هي: الحدود، والمرافق، والسلاح، والحكومة. هل يمكن للدولة حماية حدودها، هل يمكنها توفير المرافق والخدمات الأساسية، هل تستطيع إدارة شؤون الشعب على أراضيها وهل لها الحق الوحيد والحصري في استخدام القوة؟ وغالبا ما يُنظر إلى الشق الأخير من السؤال على أنه الأهم، فالدول التي لا تستطيع فرض سُلطة القانون بنفسها، وتوجد مجموعات داخل أراضيها يمكنها اعتقال وسجن وحتى قتل مواطنين أجانب مقيمين أو عاملين فيها، هي دولة عادة ما تكون من الدول المرشحة لنيل لقب “دولة فاشلة”. ويمكن، بالتأكيد، تصنيف لبنان على أنه دولة فاشلة وفق المنظور الأخير، حيث لا يوجد حق حصري لاستخدام قوة السلاح، فالموارد العسكرية الضخمة لحزب الله تقع خارج سيطرة الدولة. لكن يسري الحال نفسه على العديد من البلدان الأخرى، فجزء من أراضي أوكرانيا الواقع في شبه جزيرة القرم تحت الاحتلال، والعديد من البلدان عبر منطقة الساحل لا تتحكم في حدودها. وفي الحقيقة، إن العديد من الدول التي كانت تسمى دولا فاشلة على مدى السنوات القليلة الماضية، مثل سوريا وأفغانستان واليمن، لم تفشل لدرجة عجز الدولة عن أداء مهامها، ففي سوريا وعلى الرغم من أن أجزاء من البلاد كانت خارج سيطرة النظام، إلا أن السلطات في دمشق خلال السنوات العشر الماضية تمكنت من فرض السيطرة على أجزاء من أراضيها، ولا تزال للأسف تأمر الجيش بتنفيذ الهجمات. فإذا كانت سوريا من ضمن الدول الفاشلة، فربما يُتمتم العديد من السوريين ويهمسون بأسى قائلين: ليست فاشلة بما فيه الكفاية. والنموذج الفعلي للدولة الفاشلة هو دولة الصومال في فترة التسعينات، وهو النموذج الذي صيغ من أجلها، والذي يمكن تطبيقه عليها بصورة مقبولة، فبعد انقلاب أطاح بالدكتاتور سياد بري عام 1991، انقلبت الميليشيات المتناحرة على بعضها البعض، ثم على العاملين في المجال الإنساني، ثم على الولايات المتحدة، وبعد مرور عقدين من الزمن استأنفت حكومة مركزية صومالية أعمالها. وقف النظام الطائفي حجر عثرة أمام ظهور هوية وطنية. وجُمدت الحياة السياسية في لبنان على أسس دينية، وكل من شكك في فشل النظام القائم تعرض للتنمر وفضلا عن العيب الواضح في مصطلح “الدولة الفاشلة” كونه يحمل صبغة وطابعا سياسيا صرفا، هو أيضا لا يحمل أي فائدة أو نفع. فهل لبنان على حافة الهاوية على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؟ الجواب هو نعم، لكن تصنيف لبنان على أنه دولة فاشلة هو مجرد تلاعب بالمصطلحات والكلمات الرنانة، ولا يغير الحقائق على الأرض ولا الطريقة التي يستجيب بها المجتمع الدولي، وربما المقصود من استخدامه هو الإشارة إلى فداحة وجسامة الأمر، لكن حتى ذلك الهدف لم يتحقق بعد. فليس من الدقة وصف لبنان بالدولة الفاشلة. ولكن قد يكون من الصواب القول إن لبنان قد فشل كدولة. ويمكن القول إن فكرة لبنان كمجتمع متعدد الطوائف هي فكرة صحيحة، لكن الهيكل السياسي لتلك الدولة يمثل إشكالية، وهو الهيكل الطائفي الذي تم وضعه في عام 1990 بعد الحرب الأهلية، والذي تسبب في العديد من التحديات التي يواجهها لبنان اليوم. ومن الجائز القول إن ذلك النموذج لتنظيم شؤون الدولة قد فشل. والسبب واضح لكل من اطلع على تاريخ لبنان منذ اتفاق الطائف الذي أنهى الصراع، فلعقود من الزمن، وقف النظام الطائفي حجر عثرة أمام ظهور هوية وطنية. وجُمدت الحياة السياسية في لبنان على أسس دينية، وكل من شكك في فشل النظام القائم تعرض للتنمر من خلال التهديدات بالعودة إلى الحرب الأهلية. وكان ذلك هو خاتمة الاحتجاجات الجماهيرية التي بدأت في عام 2019، بقيادة جيل جديد وحريص على القضاء على النظام الطائفي. ومن المؤسف أنه بعد مرور ثلاث سنوات، لا تزال تلك الحركة تتعثر ولم تحصل على الدعم الذي تستحقه من داخل وخارج البلاد. وليس من الواضح رؤية آثار وعواقب انسحاب الحريري من الحياة العامة، وإعلانه على الملأ عدم ثقته بالانتخابات، ولكن من غير المرجح أن يصل صدى رسالته إلى مسامع الكثير، بناء على مجريات العامين الماضيين. لا شك أن الحياة في لبنان على حافة الهاوية، وتعيش البلاد أياما صعبة، ولكن إذا فشل لبنان فذلك بسبب حكومته.
مشاركة :