بات التسامح من حيث مضمونه ودلالاته وأطره العملية هدفا كثيرا من الحركات الدعوية المعتدلة في عالمنا العربي، وأصبح مثار حديث كل الراغبين في إحلال قِيَم السلام والأمن والاستقرار بوجهٍ عام، لاسيما أن إفرازات التشدُّد قد أثقلت كاهل العالم بما صار مشاهدًا وملموسًا من تفجيرٍ وقتل وإزهاق أرواح بالباطل، وقبل ذلك من خطابٍ دعوي مُفعم بالكراهية للآخر، ومُشبع بكمٍ كبير من الأنانية، الذي أحد إفرازاته المقيتة ممارسة الإقصاء للمخالف كحد أدنى في التعامل السلوكي. هكذا بات التسامح غاية يتطلع لها كل المعتدلين، لكن ذلك لن يتأتى بالأماني والكلمات، وإنما يقتضي قواعد يجب الأخذ بها، والعمل على زرعها ضمن إطار مجتمعاتنا العربية، ابتداء بمناهج التعليم ومرورا بخطب المساجد ووصولا إلى طبيعة الخطاب الإعلامي على مختلف وسائله وأنواعه، والأهم أن يتم حمايتها بتشريع قانوني واضح يضبط سلوك أي متطرف جامح. أول هذه القواعد في قناعتي هو: الإيمان بنسبية الحقيقة على هذا الكون، إذ ما يراه أحدنا صوابا يراه الآخر خطأ، بحسب زاوية النظر الفقهية التي ينظر منها ويعتمدها، ولنا في حديث «لا يُصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة» مثال على ذلك، إذ أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفريقين على عملهما، بالرغم من أن النص واضح في مدلوله اللفظي.. على أن ذلك لا ينفي أن تكون هناك حقيقة واحدة مطلقة، لكنها في علم الله وحده. ثانيها: الإيمان بأن المرجعية لله وحده وليس لأحدٍ من خلقه من بعد نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مصداقا لقوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير).. وقوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون). ثالثها: إعادة ترتيب الأولويات في الخطاب الديني، فالله رحمن رحيم، ونبينا قصر بعثته وحصرها في تتمة مكارم الأخلاق، وبالتالي فالقيم الأخلاقية في صورتها المُجردة ومع كل خلق الله، أساس جوهري في ديننا يجب أن ننطلق منه في مناهجنا التربوية ومضامين منبرنا الديني وخطابنا الإعلامي في عالمنا العربي. رابعها: التحرر من قيد المفاهيم البشرية الخاطئة، ومن ذلك أن نفرق بين الفقه الذي يعكس اجتهادا بشريا، والشريعة التي تضبط مسيرة الحياة وفقا للحالة الإنسانية في أرقى صورها. خامسها: العمل على معرفة مرئيات الآخر بذهن صافية، بعيدا عن المسلمات الذهنية السائدة، فالناس أعداء ما جهلوا، والصدق في تحري الدقة حال الاستقصاء والبحث، أحد أهم أوجه التسامح التي يغفل عنها الكثير حال النقاش والبحث. zash113@gmail.com
مشاركة :