مدينة التسامح والإخاء | زيد علي الفضيل

  • 9/8/2016
  • 00:00
  • 40
  • 0
  • 0
news-picture

من أجمل روايات التراث العربي، التي حفرت لها مكانًا عميقًا في ذاكرتي، تلك الرواية التي تقول: إنَّ شخصًا كان يمشي في الصحراء، فرأى شاخصًا من بعيد، فظنَّه للوهلة الأولى وحشًا، فلمَّا اقترب منه تبيَّن فيه ملامح إنسان، ولمَّا اقترب منه أكثر وضح له أنَّه يعرفه، ولمَّا اقترب أكثر وأكثر تبيَّن له أنَّه أخوه ابن أمِّه وأبيه. ذلك واقعنا اليوم الذي سبَّبَ، ويُسبب كثيرًا من مآسينا البينيَّة، فمعظم إشكالاتنا، وحروبنا مرجعها الجهل بالآخر دينًا ومذهبًا، ليس على صعيد ديننا الإسلامي وحسب، وإنَّما هو ممتدٌّ على صعيد الدِّيانات السماويَّة وغيرها من الثقافات الإنسانيَّة الأخرى. لكن وقعه اليوم بين المسلمين أكبر، ووطئه عليه أشدُّ بأسًا وتنكيلاً، وهو ما يمكن أن يتراءى لكل نافذ بصيرة في مختلف الصراعات الدامية اليوم في المنطقة بوجه عام، التي تقوم على اعتقاد كلِّ أحد منهم بامتلاك الحقيقة والصواب، وترتكز على إيمانيَّة كل أحد منهم بخطأ الآخر وفسقه، بل وكفره، متناسين أنَّ أكبر إشكال بينهم كامن في جهل بعضهم ببعض، وعدم إدراكهم، ومن ثمَّ استيعابهم، وبالتالي فهمهم لمنطلقات وحيثيات كل واحد منهم، والسبب -ابتداءً وانتهاءً- راجع إلى ما بناه كل واحد منهم من تحصينات خاطئة، حبس نفسه خلفها، وما أصدق قول الإمام عليّ -كرم الله وجهه- حين قال: (الناسُ أعداءُ ما جهلُوا). في غمرة كل ذلك، وفي هذه الأيام خصوصًا، التي تأتلف فيها القلوب، متوجِّهة بنور بصيرتها إلى بيت الله المعظم، وحرم نبيه محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم، أحبُّ أنْ أتفرَّس في وجوه كلِّ مَن أتى بفؤاده مُلبِّيًا مُسَلِّمًا، من مختلف الأجناس والأعراق، من مختلف التيارات والنحل، من مختلف المذاهب والأفكار، وأتساءل بدهشة: ألا يدركُ كلُّ أولئك قيمةَ ما يجمعهم في هذه الأرض المباركة؟ فتراهم وقد أعانوا بعضهم، وأفسحوا الأماكن لبعضهم، وتناغموا بأصواتهم مُهلِّلين مُكبِّرين مُسَلِّمين، تاركين حصونهم التي أهلكتهم وراء ظهورهم. ألا يدرك كلُّ أولئك من مشارق الأرض ومغاربها قيمةَ ما يجمعهم في هذه الرحاب الطاهرة من حبٍّ وإخاءٍ وتسامحٍ؟ حتَّى إذا عادُوا إلى قواعدهم، استجمعوا أمرهم، وحاربوا شياطينهم، واستشعروا قيمةَ ما اكتنزوه في صدورهم من كتاب رباني، أساسه الرحمة والعدل، وقوامه الرأفة والتسامح، وديدنه حُسنُ الظنِّ، والاتقانُ في العملِ. ذلك ما نفتقده كمسلمين للأسف، وهو ما لا يُدركه جُلُّهم ممَّن أنعم الله عليه بنعمة الحج إلى بيته المعظم، وزيارة مسجد نبيّه والسلام عليه، فتراهم وقد عادوا إلى سابق تحصيناتهم إزاء بعضهم البعض، ليُكملوا مسيرة الصراع والعداء الممقوت، متشبِّثين بتصنيفات مقيتة، ما أنزل الله بها من سلطان. إيه يا مكَّة المكرَّمة، ويا طيبة الطيِّبة، يا مدينتي التسامحِ والإخاءِ، كيف غفل أبناؤكما عن قيمكما، فتاهوا في غمرة غفلتهم، عن بلوغ أسمى الغايات الربانيَّة، والله المستعان. zash113@gmail.com

مشاركة :