الحرب في أوكرانيا، تتسارع الأحداث فيها بوتيرة عالية سواء ميدانيا وعسكريا، أو على المستوى السياسي والدولي، وأظن أن المفاجآت الكبيرة ستأتي لاحقًا، ومن غير الواضح حاليًا إلى أي مدى ستتطور الحرب، وكيف، ومتى ستنتهي؟ ولكن الواضح أنها ستشكل مفصلا تاريخيا، وسيكون النظام العالمي بعد الحرب مختلفًا عمّا قبلها. ومن المبكر الحديث عن تشكل نظام ثنائي القطبية، على غرار أيام الحرب الباردة، فبدايةً، النظام الأحادي القطبية بزعامة أمريكا بدأ يتزعزع منذ عام 2008. بسبب الأزمة المالية والاقتصادية الأمريكية، وبسبب تدني قدرة وفاعلية العسكرية الأمريكية (خاصة في عهد ترامب، والذي قلّص حضور الولايات المتحدة في السياسة الدولية)، وبسبب نمو قوى دولية جديدة، حيث استعادت روسيا عافيتها، وبرزت الصين كقطب اقتصادي/ تكنولوجي ينافس وقد يتفوق على التفرد الأمريكي، كما ظهر تكتل البريكس (روسيا، الصين، البرازيل، الهند، جنوب إفريقيا). وبناء على المعطيات السابقة يمكننا القول إن اللحظة الأمريكية، أي لحظة الأحادية القطبية، أوشكت على الانتهاء، وبدأ يتشكل نظام دولي متعدد الأقطاب وهي صيغة غير مسبوقة تاريخيا، لكن هذه الأقطاب لم تصل إلى مستوى منافسة أو تهديد التفرد الأمريكي، فالدول الكبرى إمّا غير راغبة، أو غير قادرة على ممارسة دور بديل أو منافس لأمريكا، فضلاً عن الفجوة الكبيرة بين الولايات المتحدة وهذه الدول في القدرات العسكرية والتكنولوجية. وهذا يعني أن العالم يعيش مرحلة تحولت فيها الولايات المتحدة من كونها الدولة العظمى والمهيمنة، إلى الدولة رقم واحد في العالم، فهي لم تعد في وضع مريح بالقدر الذي كانت عليه سابقًا، وباتت تحتاج موافقة ومساعدة دول أخرى. لكن الأزمة الأوكرانية ستعمل على خلخلة هذا الوضع باتجاهين: الأول إضعاف روسيا بالقدر الذي ربما يخرجها من ساحة المنافسة إذا لم تنجح في تحقيق أهدافها، وربما يرجعها ذلك سنوات إلى الوراء، ومن الواضح أن العقوبات المفروضة عليها ليست حبًا في أوكرانيا، إنما هي فرصة أمريكا لإقصاء خصمها الأول. والثاني، تعزيز دور الاتحاد الأوروبي كلاعب أساسي في السياسة الدولية، وقد وجدت ألمانيا فرصتها التاريخية في تزعم الاتحاد، ليس اقتصاديا كما هو الحال الآن، إنما عسكريا، حيث أعلنت تخصيص مائة مليار دولار لتعزيز قدراتها العسكرية، إضافة إلى 2% من موازنتها السنوية، وهو مبلغ ضخم جدًا.. ولهذا التوجه علاقة بضعف ثقة أوروبا بالدعم الأمريكي، والتي تضعضعت إلى أدنى حد في عهد ترامب. إضافة إلى ما سبق فإن عناصر القوة الاستراتيجية لم تعد مقتصرة على الجانب العسكري والنووي، فقد دخلت عناصر قوة جديدة وحاسمة، أبرزها التكنولوجيا، والأمن السيبراني، والقوة الاقتصادية، ومن ناحية ثانية فإن العولمة والتجارة الحرة أوجدتا ظاهرة التكاملية في العلاقات الدولية؛ فخسارة أحد الأقطاب الدولية تعد خسارة للقطب الآخر، خلافًا لما كان سائدًا في زمن الحرب الباردة، حين كانت خسارة طرف تمثل كسبًا للآخر، فاليوم إذا تراجعت أمريكا اقتصاديا، لا يعني هذا تقدمًا لمنافسيها، بل يعني خسائر لكل من أوروبا، والصين، وروسيا، والهند، وحتى بلدان العالم الثالث، وذلك لأن الاقتصاد العالمي بات مترابطًا ومتشابكًا بشكل غير عادي، وكل الدول الكبرى تعتبر سوقًا مهمًا وشريكًا تجاريا لبعضها بعضًا. صحيح أن هناك من يتطلع إلى كسر الهيمنة الأمريكية، وإلى بروز قوة تضع حدًا لجبروتها، وربما روسيا قادرة على ذلك، لكن المهم تشكل نظام دولي متعدد الأقطاب، شريطة أن يكون قائمًا على العدل، والكرامة، واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، واحترام حقوق الإنسان.. لا أن يستبدل مستبد واحد بعدد أكبر من المستبدين. ومن الواضح أن النظام العالمي القائم، والذي هو في طور التشكل ما زال يفتقر إلى الحد الأدنى من قيم العدالة والمساواة والإنسانية، وهو قائم على المصالح، ومنطق القوة، وبمعايير مزدوجة ونفعية.. كان هذا واضحًا في الهبّة العالمية غير المسبوقة ضد روسيا، وفي حجم ونوعية العقوبات المفروضة عليها، فقد اجتمع مجلس الأمن على الفور، كما اجتمع البرلمان الأوروبي، وكل المحافل الدولية انتفضت فجأة، وتذكرت أن الاحتلال مرفوض، وأنه لا يجوز لدولة أن تعتدي على دولة أخرى، ولا أن تتدخل في شؤونها الداخلية.. فجأة تذكروا القانون الدولي، وحقوق الإنسان! خرج رؤساء أمريكا وفرنسا وبريطانيا على الإعلام يتحدثون عن القانون الدولي، وعن العدالة والإنسانية! متناسين ماضيهم الاستعماري المخزي، ومتناسين أن أمريكا دعمت ومولت عشرات الانقلابات، وغزت، واحتلت، واستباحت وهدمت دولاً، وقتلت وشردت الملايين.. ومن قبلها بريطانيا وفرنسا، ومعظم دول أوروبا. وهذه الممارسات الإجرامية مازالت حتى اللحظة، وما زال هذا المجتمع الدولي المنافق يشاهد إسرائيل وهي تحتل الأرض، وتنتهك حقوق الإنسان، وتنتهك القانون الدولي كل يوم، ولم يفعل معها واحدًا بالألف مما فعله مع روسيا! على أي حال، رغم كراهيتنا للحرب، وتعاطفنا الإنساني مع الضحايا، إلا أنها فرصة للإعلام الفلسطيني والعربي الحر أن يطالب المجتمع الدولي بمعاملة إسرائيل، وكل دولة تعتدي على القانون الدولي بنفس المعايير، ولا نريد أكثر من ذلك. الحرب الروسية الأوكرانية لم تكشف فقط ازدواجية المعايير الأمريكية والأوروبية، وغياب العدالة عن منطقها وسلوكها وسياساتها، بل كشفت أيضًا إلى أي مدى تلك الدول متورطة في نزعة عنصرية مقيتة. وهو ما ظهر في التعامل مع اللاجئين، وظهر حتى في الخطاب الإعلامي، فقد خرست كل الألسن (من قادة ومسؤولين وصحفيين) حين كان الغازي هي أمريكا وحلفاؤها، وحين كانت الضحايا من شعوب العالم الثالث! فقد «صُدم» هؤلاء لأن الضحايا هذه المرة أوروبيون، و«بيض»! أما شعوب أفغانستان والعراق وسورية وليبيا واليمن فلم تحرك ضمائرهم، ولم تهز مشاعرهم، ولم تدفعهم إلى استحضار معايير العدالة والإنسانية! حتى في حرب الإبادة ضد مسلمي البوسنة (وهم ضحايا بيض وأوروبيون)، لم تتحرك أوروبا كما تحركت الآن، هل لأنهم مسلمون! قد نتفهم حق روسيا في الدفاع عن أمنها القومي، وحق شعب أوكرانيا في الأمن والسلام، لكننا دومًا وأبدًا نظل نرفض الحرب وندينها من حيث المبدأ، لأن الحرب أغبى ما اخترعه الإنسان، وأكثره وحشية.. وهذه الحرب ضحاياها مدنيون وأبرياء، وحتى الجنود في ميدان المعارك الذين دُفعوا لها دفعًا هم أيضًا بشر، ولهم عائلات وأطفال ولهم الحق في الحياة. { كاتب من فلسطين
مشاركة :