مع انهيار الكتلة الشرقية ومؤسساتها، كحلف وارسو، قبل ثلاثة عقود، ساد الاعتقاد بأن التعددية القطبية للعالم قد انتهت، وبرزت نظريات تؤكد انتهاء هذه الحقبة من التاريخ البشري، فبشَّر فوكوياما بنهاية التاريخ، وتحدث هيننغتون عن تحول الصراع إلى صراع بين الحضارات، وكان يعني بصورة أساسية الصراعَ بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وتعززت أطروحته بالظهور الغامض لمنظمات إرهابية كـ«القاعدة» و«داعش» و«حزب الله» وغيرها من المنظمات المتطرفة. والآن، ومع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بدا أن كل هذه النظريات والاستنتاجات كانت متسرعةً ولم تكن ذات أسس موضوعية راسخة، بدليل الاعتراف الخجول لفوكوياما بالتشكك في نظريته السابقة، وذلك في مقالة له بعد الأحداث الأخيرة في أوكرانيا، حيث يقف العالم أمام تطورات جذرية قد تتغير معها الكثير من الثوابت ومراكز القوى والتي سيعاد ترتيبها نتيجةً لضعف وتهالك قوى تقليدية وبروز قوى جديدة تتمتع بالعديد من الأفضليات الاقتصادية والعسكرية والتقنية التي تؤهلها للعب دور محوري في الصراعات القادمة، والتي ستساهم في عودة العالم من جديد إلى التعددية القطبية لتنهي بذلك ثلاثة عقود من عالم القطب الواحد الذي ساهم في خلق مزيد من بؤر التوتر، على عكس الاعتقاد الذي ساد في البداية من أن الأحادية القطبية ستساهم في الاستقرار والأمن الدوليين. هذا التحول المهم في العلاقات الدولية يتطلب من الجميع الوقوف أمامه لتحديد موقعه وإعادة رسم تحالفاته انطلاقاً من مصالحه الوطنية، وهو ما بدأت بعض الدول المباشَرةَ فيه لتحديد مسار سياساتها المستقبلية، خصوصاً البلدان العربية كانت أكثر الدول تضرراً من انهيار نظام القطبين، والذي في ظله حصلت جميعاً على استقلالها السياسي وبني السد العالي الذي لا تقدر فائدته بثمن لمصر، علماً بأن البنك الدولي رفض تمويل بناء السد، إلا أن البديل كان جاهزاً بفضل تعدد قطبية العالم. ولولا الأحادية القطبية خلال الثلاثين عاماً الماضية لما تم غزو العراق وتدميره، ولما حدث ما يسمى «الربيع العربي» الذي نجم عنه تدمير خمسة بلدان عربية كانت تنعم بالأمن والاستقرار وتتمتع شعوبُها بمستويات معيشية مقبولة، إذ يدفع ذلك باتجاه إعادة تقييم السياسات بناءً على ما بعد حرب أوكرانيا، استعداداً لعالم جديد متعدد الأقطاب لكنه مختلف تماماً عن التعددية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية عندما هيمنت قوتان عظميان، ففي عالم ما بعد تطورات أوكرانيا ستكون هناك أكثر من قوتين عظميين، فبالإضافة إلى الولايات المتحدة المتراجعة، والتي يعتمد اقتصادها على ديون تجاوزت نسبة 100% من ناتجها المحلي الإجمالي، هناك روسيا بمواردها الطبيعية الهائلة، وكذلك الصين بثقلها الاقتصادي الكبير والذي يتوقع أن يتجاوز ثقل الاقتصاد الأميركي بعد سنوات قليلة، لتصبح أكبر اقتصاد في العالم، هذا ناهيك عن دول كبيرة أخرى صاعدة بقوة. ويعني ذلك أن العالم سيشهد تغيرات جيوسياسية هائلة في فترة ما بعد أحداث أوكرانيا الحالية، إذ سيكون ثمة اصطفاف جديد لمراكز القوى وللتحالفات العالمية، وهو ما يتطلب ضرورة رسم سياسات جديدة للاستفادة من هذه التحولات الجذرية وتسخيرها لصالحها، خصوصاً وأن دول مجلس التعاون الخليجي أصبحت تملك قدرات اقتصادية وعسكرية وتأثيرات سياسية كبيرة لا تقارن بأوضاعها الماضية من جهة أخرى، مما يمنحها ثقلاً ودوراً عالميين تملك فيهما زمام المبادرة لخلق توازن في علاقاتها الدولية يمنحها المزيد من الحيادية والقدرات الذاتية للدفاع عن مصالحها الوطنية لتقيم علاقاتها مع مختلف القوى على أسس من التكافؤ والمصالح المتبادلة، علماً بأنها تملك العديد من الأوراق القوية، باعتبارها مصدراً مهماً للطاقة وتتمتع باقتصادات قوية وأسواق نشطة وقوة عسكرية يعتد بها، بالإضافة إلى موقعها الجغرافي المميز على تقاطع طرق التجارة الدولية، إذ إن كل هذه التطورات المتسارعة تعني أنه مع انتهاء الحرب الحالية ستنتهي الأحادية القطبية للعالم، ليعاد تشكيله مجدداً عبر نظام عالمي جديد للقرن الحادي والعشرين. *خبير ومستشار اقتصادي
مشاركة :