قال أبو عبدالرحمن: سبق أن كتب لي سائل من (جدة) مبدياً حبه للإمام ابن حزم رحمه الله تعالى، وسألني عن عقيدتي هل هي سلفية، وليس ذلك تشكيكاً فيها، ولكن ليخرس ألسنة من لا يخافون الله تعالى.. والجواب: إنَّ عقيدتي سلفية في الأمور الثابتة بقطعي النصوص، وفيما لم يختلف فيه أهل العلم والإيمان من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وما استجد فيه الخلاف ولم يبحث في عصرهم؛ فسلفيتي الرد والحجة والبرهان من ظواهر النصوص والعقل حسبما قررته في نظريتي المعرفة الشرعية والبشرية؛ فإذا قال بعض السلف الصالح: «إن الله خلق آدم على صورة الرحمان»، ورأيت أن البرهان يرد ذلك أخذت بالقول الآخر لبعض السلف كـ(ابن خزيمة)، وعشرات من حفاظ العلماء ومفكريهم؛ وهو أن الله خلق آدم على صورة آدم لم تتبدل صورته بعد أن صار من أهل الأرض.. وإذا وجدت مسألة تتكافأ فيها الأدلة، ولم يرد بها نص قطعي من النص، ولا برهان فكري لا احتمال فيه، ثم قال بعض السلف فيه بمذهب، وقال آخرون بمذهب، وتوقفت فئة ثالثة لم يظهر لها البرهان، ثم قال أحد الفريقين: التوقف بدعة أو جهمية؛ فإنني أرفض ذلك، وأقول: يحرم على المسلم أن يقول في دين ربه بغير علم، وأن يقفو ما ليس له به علم، وأن يُقلِّد غيره وقد فقه أدلتهم وأدلة غيرهم المعارضة؛ بل واجب عليه أن يتوقف، ويقول: لا علم لي إلا ما علمني ربي.. وما ضمن لي أن يعلمني كل مغيب، وما أوجب علي ربي أن أقلد غيري بدون برهان لائحٍ معيناً مدلوله للحكم إلا إن كنت عامياً: فإنني حينئذ أسأل من أثق به علماً وصلاحاً من أهل الفكر، أو من نصبهم ولي الأمر للفتوى، ولا أكفر أحداً من أهل القبلة من أشعريٍّ، أو ما تريديٍّ، أو معتزلي، فلا تكفير في الدنيا إلا بقضاءٍ يرفع العذر بالجهل، أو التأويل مع نزاهة القصد، وصدق التحري للحق.. ولا تكفير يوم القيامة إلا بمقتضى علم الله بصدق نيات عباده أو كذبها في إضمار الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وبراءة الطوية من الهوى والعناد والانطوء عليهما، والصدق في تحرِّي الحق، أو الصدود عنه بعمد؛ وهذا لا يعني الأنوثة الفكرية في مواجهة الباطل والبدعة والكفر، ومهادنتهن؛ بل يبذل العالم المسلم قدراته العلمية والفكرية في تبيان ما يراه حقاً، ويسمي الباطل باسمه من كفرٍ، أو فسقٍ، أو بدعة، ويعلن بأنَّ من تمسك بالكفر بعد قيام الحجة عليه، وفرغ قلبه من اعتقاد حجة صحيحة غير مغلوبة فهو كافر؛ وهكذا الحكم في البدعة والفسق؛ وعيه أن يترفع عن المراء إذا انقطع خصمه عن الحجة ودخل في المغالطة المتعمدة؛ فإن عليه إخراس العقل وإذعان النفس لا إخراس اللسان، وإن أغلظ القول غضباً لله، أو انتصافاً لنفسه فلا جرم عليه، وإن صبر وتلطف فهو من الكاظمين الغيظ العافين عن الناس.. وقال السائل في سؤال ما فهمت المراد منه حتى هذه اللحظة؛ هل أنت صاحب المقال الذي بين الحق، وقهر أهل البدع والأحزاب السياسية، أم صاحبه أبو تراب؟، والمقال قرأته في جريدة (عكاظ).. والجواب: كلانا كان له مساهمة في عكاظ، ولا أدري أي مساهمة تقصد؟، وأبو تراب رحمه الله صاحبي فيه خيرٌ كثير، وعندي تقصير كثير!.. وقال السائل: لابن حزم رحمه الله تعالى أخطاء في العقيدة خالف فيها السلف، وأنا متأكد أنك معنا في هذا الكلام؛ لأن ابن حزم غير معصوم، والحق أحق أن يتبع؛ فأنت محب لابن حزم، ولكنك لست متعصباً له، أليس كذلك؟. قال أبو عبدالرحمن: صدقت بارك الله فيك؛ فابن حزم رحمه الله تعالى مثل غيره من جميع العلماء في كونهم غير معصومين، وأنا أحب ابن حزم حب إعجاب وإكبار؛ لسعة علمه، وقوة فكره، وجمال أسلوبه وحلاوته، وكثرة سبقه وإبداعه، وتعدد مواهبه، وتجرده لطلب الحق، وفحولة مواقفه، وغزارة إنتاجه، ونفاذ رؤيته، وتجدد طرحه، وندرة معارفه بين أهل عصره، لم تلد البيض مثله، وليست هذه المحبة المفعمة تعني تقليده، فهو أكره الناس للتقليد والأمعية.. يذكر قول (أرسطو): (أنا أحب سقراط ولكن الحق أحب إليَّ منه)، وقول (أفلاطون) عن (أرسطو) مثل ذلك، وقال (ابن حزم) عن (أبي جعفر الطبري): كبير عند أهل الإسلام نحبه ونجله، ولكن الحق أحب إلينا منه.. وقال: إننا لا نقلد داوود، ولا ندعو الناس إلى تقليدنا.. قال ذلك في كتابه (الرسالة الباهرة).. وهكذا قال جميع الأئمة كما تقصى ذلك الشيخ (ناصر الدين الألباني) رحمه الله في إحدى طبعات كتابه عن الصلاة.. ومذهب ابن حزم في أصول الفقه صحيح بإطلاق، وذلك حسب اجتهادي، ولكل طالب عالم اجتهاده إذا صدق في تحري الحق، وبذل وسعه في الطلب، ووجدت عنده الأداة الفكرية والتأهيلية علماً.. مذهبه صحيح بإطلاق في أصول الفقه حجة ودعوى تارة، ودعوى حسب تارة.. وتثق بخطئه كثيراً في مسائل فقهية مثل غيره من العلماء، ولكل مذهب مفردات عند العلماء، وقد كتب فيها تزليفات.. وأسباب أخطاء ابن حزم عاملان: إما الخطأ في تطبيق أصوله الصحيحة، وإما غياب شيء من العلم عن علمه هو في المسألة كرده حديثاًلرواية مجهول عنده وهو غير مجهول لدى العلماء.. وأخطاؤه في العقيدة قليلة جداً، ومذاهبه في العقيدة مذاهب الإمام أحمد اجتهاداً لا تقليداً.. أخطاؤه قليلة؛ ولكنها شنيعة جداً كقوله أسماء الله أعلام مترادفة ليس للحكيم معنى غير أنه اسم مجرد لله سبحانه، وليس للعليم غير معنى السميع، وجاءه الخطأ من مقدمتين فاسدتين: أولاهما إيمانه بأن أسماء الأعلام غير مشتقة.. وأخراهما إيمانه بأن إعطاء كل اسم معناه الاشتقاقي في اللغة يقتضي التركيب في الذات الإلهية.. سبحان ربي عن وساوس الظنون، ونسي رحمه الله تعالى أن القول في الذات الإلهية كالقول في الصفات، وأننا لا نتصور ذاتاً بلا صفات، وأن رحمة الله وعلمه مثلاً أزليان لم يستجدا؛ وإنما الذي يستجد معلومه ومرحومه.. على أن الإمام أبا محمد ابن حزم رحمه الله يكاد يكون أوحد بين العلماء قبله في ربطه نظرية العلم الشرعية بنظرية العلم البشرية!!؛ فإلى لقاءٍ قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان. ** ** (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -
مشاركة :