ارتبطت الحرب منذ نشأة التجمعات الحضارية والإنسانية الأولى، بغاية مقدسة تصلها مع قوى الغيب لتحقيق الخير المطلق، فكانت هذه الحروب تتغنى بالأبطال وتمجدهم كأنصاف آلهة كما هو الحال في الحضارات القديمة. فكان الإنسان يحتاج إلى قوة موازية للطبيعة ترتقي إلى مصاف الآلهة؛ لتسحبه من هاوية الخوف إلى مناطق أكثر أمانا ً وطمأنينة مقابل الطاعة والعبودية الخالصة، حتى قصص الأنبياء وسيرهم لم تخل من الحروب مع قوى الشر لتحقيق العدل و الخلاص الأبدي، وامتدت هذه الحروب إلى الأديان الإبراهيمية لتصبح الحروب إنسانية خالصة لكنها تحمل راية الله وتقاتل باسمه كل مخالف لا ينتمي للعقيدة، و في نفس الوقت كانت متنفسا ً لتفريغ النزعات العدوانية الكامنة في النفس البشرية. إذا كانت حروب الإنسان الأولى بربرية وهمجية، فهل الحروب في عصرنا الحديث أكثر حضارة وتمدنا ً كيف يمكن للحرب أن ترتبط بالحضارة؟ وكيف نظر فلاسفة عصر الأنوار إلى الحرب؟ يرى الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز إن الإنسان مجبول على نزعة عدائية متاصلة، والحرب جزء من هذه الطبيعة البشرية ما دامت هناك رغبات تحكمه في صراع البقاء كالأنانية وحب التملك والغيرة والحسد. لذا فهو يرى فإن الإنسان ذئب لأخيه والجميع في حرب ضد الجميع، ولا تهذب هذه النزعات إلا من خلال حكم عقلاني مطلق لحاكم واحد يصادق عليه جميع أفراد المجتمع مقابل أمنهم وحمايتهم وشروط توفير متطلبات الحياة اللازمة، ومن ضمنها منع الحروب بكل أشكالها وصورها. أما الفيلسوف السويسري جان جاك روسو فيرى عكس هوبز أن النزعة السوية الاصيلة هي التي تحكمه وفقا ً لما تقتضيه الطبيعة وقوانينها، فالحرب بدأت منذ أن أصبح المشاع في الطبيعة ملكية خاصة للإنسان، فالطبيعة بحسب روسو متناغمة مع رغباته البيولوجية، وهو متناغم معها، فالإنسان أصبح أكثر شراسة وعنفا ً مع التطور الحضاري والعلمي. يقول روسو في كتابه العقد الاجتماعي "إن الحرب ليست علاقة رجل برجل, وإنما هي علاقة دولة بدولة أخرى, وفيها لا يكون الأفراد أعداء إلا بصفة عارضة كمواطنين وكمدافعين". الألماني هيغل ينطلق من مفهوم الحرب برؤية ديالكتيكية فيرى أن الحروب هي تجارب عظيمة في التاريخ وفي حياة الشعوب، فالحرب تأتي لتوقظ الشعوب من سباتها وتقودها نحو شعلة الحرية، فالشعوب التي تعيش فترة طويلة من السلام، وتتمسك بالحياة المادية فإنها تذبل وتفقد معنى وجودها، فهذا السكون التام في حياة الشعوب كما يرى هيغل هو شلل وقصور ذاتي يفقد فيه الأفراد حريتهم ليبقوا حبيسي قوقعة الأنانية والمصلحة الشخصية فالرياح التي تهب فوق مياه البحيرة تحفظها من الركود والعفن. الرسائل قد يبدو الأمر غريبا ً منذ الوهلة الأولى أن يتبادل عالمان مشهوران، يختلف اختصاص منهما كل الاختلاف رسائل عن قضايا مصيرية تهم العالم ومستقبل الإنسان، وتحديدا عندما يرتبط بموضوع له جذوره التاريخية وتشعباته النفسية والاجتماعية في الحاضر كالحرب. هذا ما كلفت به عصبة الأمم والمعهد الدولي للتعاون الفكري في باريس عام 1932 عالم الفيزياء الشهير البرت اينشتاين بإدارة حوار حول أي مشكلة يختارها هو بنفسه، وقد اختار اينشتاين الحرب أسبابها، وطرق منعها كموضوع للنقاش، وكان من المنتظر أن يكون هذا الشخص مفكرا ً سياسيا ً، أو شخصية دولية مختصة في شؤون الحرب والعلاقات الدولية، إلا أن اختيار إينشتاين كان غير متوقعا ً، حيث وقع الاختيار على عالم النفس الشهير سيغموند فرويد. تحرير الإنسان يبدأ إينشتاين رسالته إلى فرويد والمؤرخة بتاريخ 1931 أو 1932 بإعجابه الشديد بشخصية فرويد وشغفه بها، كما أنه لا يخفي إطلاعه على مؤلفات فرويد وأرائه في علم النفس، وتحديدا ً كتابه"قلق في الحضارة" الذي يكشف عن الإنسجام بين رغبتين عند الإنسان، وهي الغريزة التدميرية وغريزة البقاء. كان اينشتاين يرى في الحرب إنها المشكلة الخطيرة التي تهدد البشرية، وتنبىء بمصيرها المحتوم في الزوال بسبب ما تمتلكه من أسلحة مدمرة وفتاكة، وكذلك بسبب النزعة العدوانية المتأصلة في الطبيعة البشرية؛لذا فهو يثني على فرويد إخلاصه العميق لهدفه في تحرير الإنسان من شرور الحرب وويلاتها، ثم يرى إينشتاين أن هناك قادة روحيين ومعنويين (كالمسيح وغوته وكانط) حاولوا النهوض بمشروع دائم للسلام بين الدول والقضاء على آفة الحرب، لكنهم بالرغم من كونهم رجالا عظماء؛إلا أن تأثيرهم كان ضئيلاً على مصير الأمم الذي هو في يد سياسيين غير مسؤوليين. على طريقة كانط يقترح إينشتاين وعلى طريقة إيمانويل كانط في مشروعه للسلام الدائم إقامة هيئة تشريعية دولية هدفها فض النزاع والخلافات بين الدول، وبالتالي منع الحروب التي قد تقع بين هذه الدول، كما أنه يتطرق إلى النخبة الثقافية التي لا تمارس دورها التاريخي بسبب انقسامها إلى زمر وجماعات، واستحالة التعاون بين أعضائها لحل مشكلات اليوم، فالمثقفين على حد تعبير إينشتاين لا يتواصلون مباشرة مع الحياة الحقيقية، بل يتعرفون إليها في أسهل أشكالها الإصطناعية على الصفحات المطبوعة. وأخيرا ًيعلل اينشتاين تقديمه لهذه الاقتراحات لفرويد، وليس لأي شخص آخر بسبب ما يتمتع به من ملكة نقدية، ورؤية للواقع لا يشوبها التشويش والغموض. حماية البشرية في الرسالة المؤرخة من فرويد بتاريخ سبتمبر 1932 إلى السيد إينشتاين، يشكر فرويد إينشتاين، لاختياره في هذا النقاش ويتمنى أن يكون أهلا لذلك، عما يمكن القيام به من أجل حماية البشرية من لعنة الحرب. يرى فرويد أن العنف نزعة متجذرة عند الإنسان، فالعنف سابقا كان عنفا ً أحادياً هو عنف القوي المنتصر، لذلك فإن اتحاد الضعفاء المتمثل بالقانون يضع حدا ًلهذا العنف، لكن بدورها فإن دورة العنف لن تتوقف، وستنتج عنفا ً من نوع آخر في مجتمع يتكون من عناصر قوى غير متكافئة، وهذا يعني تجدد العنف من جديد عندما يعمد اتحاد الضعفاء إلى توظيف القوة أو القانون لصالحهم. لا يمكن اقتلاع العنف من جذوره، ولا يمكن قمعه بصورة كاملة. فاذا كانت تحكم الإنسان نزعتين للبقاء والتدمير وتتجاذبانه في الصراع، فإنه يمكن للإنسان تصريف نزعة التدمير في قنوات خارج الحروب والصراعات تماما مثل طاقة الليبدو التي تمد الغريزة الجنسية بالحيوية، يمكن تصريفها خارج الذات في الحياة وفي الأعمال الإبداعية . إلا أن العدوانية بنظر فرويد ضرورية لتعزيز الوحدة والإنسجام بين أبناء الأمة والجماعة الواحدة، فلا بد من وجود عدو أو خلقه؛كي لا تكون هذه العدوانية بلا هدف وترتد إلى الذات ويكونها هدفها الوحيد العدوان والتدمير. فكل هوية أو جماعة بشرية تحتاج دائما إلى الأعداء لكي تحفظ أمنها ووحدتها الداخلية. هنا سيصبح الإنسان مجرد رقم في الجماعة، أو ترس في آلة تحركها الآيدولوجيات والهويات القاتلة، فلا توجد حرب ظالمة وأخرى عادلة فالحرب هي الحرب، لكن البشر يمنحونها مسميات أخلاقية وفقا ً لعواطفهم ومصالحهم وعقائدهم الموروثة أو المكتسبة. موت بطيء كانت الحروب القديمة قد أماطت اللثام عن وحشية الإنسان وتفننه في القتل والتعذيب، لكن الشعوب كانت تنهض بعد فترة قصيرة فيعود الإنسان للعمل والزراعة والبناء وتقديم فروض الطاعة لأنظمة الحكم الجديدة دون أن تنهار كينونته، أو ينقص شيء من إنسانيته لأنه كان على وئام تام مع الطبيعة وتقلباتها. أما الحروب الحديثة فهي أكثر دهاء ومكرا ً في تكتيكها السريع والمدمر، واستراتيجيتها بعيدة المدى تلك التي ساهمت في انهيار الإنسان وموته البطيء.
مشاركة :