تتدلى أغصان شجرة العنب على امتداد زقاق ضيق حيث يجلس شبان على جانبيه فوق أرائك خشبية يدخنون النرجيلة فيما تصدح أغان قديمة من مذياع متقادم من جوف غرفة صغيرة تتوسط الزقاق. في الغرفة يتلقى لطفي المزوغي من النادل بزيه التقليدي طلبيات الزائرين ويعمل على تجهيز أكواب الشاي والعصير بشكل مسبق حتى يتفادى الضغط. وفي الغرفة المقابلة على الجانب الآخر من الزقاق تصطف قوارير النرجيلة مجهزة بأنواع مختلفة من التبغ المنقوع بطعم الفواكه. يقول لطفي بحماس وهو يجهز أكواب القهوة خلف ماكنة الإسبريسو “أنا مولع بعملي وأجد متعة في الاستمرار هنا. نعمل ليلا ونهارا وحتى الرابعة فجرا”. ويضج المقهى بالرواد على امتداد اليوم. عمل والد لطفي في المقهى منذ خمسينات القرن الماضي قبل أن تعود له ملكيته في منتصف عقد الستينات، وهو متفرغ الآن للعمل الفلاحي فيما أصبح لطفي هو من يسير المقهى. المقهى يستقبل الطلاب القادمين من مختلف جهات البلاد للدراسة في جامع الزيتونة القريب منذ العهد الحفصي ويوضح لطفي “يتم تداول ملكيته من جيل إلى آخر ثم ينتقل في بعض الفترات إلى أحد العاملين به. حصل هذا مع والدي”. وقبل ثمانية قرون لا أحد يعرف على وجه الدقة كيف كان الوضع مع الزبائن الأجداد في نفس هذا المكان وماذا كان يقدم المقهى إليهم، ولكن لطفي وشقيقه يتباهيان بأنه يظل المقهى الأقدم في أفريقيا حتى اليوم. ويروي بفخر وبصوت عال أمام الزبائن “قال لنا المؤرخون إن المقهى بدأ أشغاله منذ بناء مدينة تونس العتيقة زمن الدولة الحفصية وحتى قبلها، وكان يقصده طلاب جامع الزيتونة القريب والقادمون من مختلف جهات البلاد وحتى من خارج تونس”. واستحوذ الحفصيون على الحكم في تونس في بدايات القرن الثالث عشر وأسسوا دولتهم التي استمرت أكثر من ثلاثة قرون واتخذوا من العاصمة داخل المدينة العتيقة مقرا لحكمهم ومؤسساتهم ودواوينهم ومساكن الأمراء والحاشية. وتقع مؤسسات الحكم التي اختفى بعضها اليوم، على مقربة من جامع الزيتونة المحاط بالمساكن ومحلات التجار والحرفيين. وينتصب مبنى مقهى العنبة مع بداية العصر الحفصي إذ يتناقل المؤرخون أنه كان يقصده طلاب جامع الزيتونة للاستراحة ليشكلوا ما يشبه صالونا ثقافيا. ويتابع لطفي “كان جامع الزيتونة بمثابة محج الطلبة والعلماء في تلك الفترة. يأتون من مصر والسودان والمغرب وغيرها من الدول وكانوا يزورون هذا المقهى. لم نغير أي شيء في المبنى حافظنا على هيئته مثلما كان قبل أكثر من ثمانية قرون بخلاف بعض أشغال الصيانة”. ابتسامة الأب ابتسامة الأب ويقع المقهى في قلب المدينة العتيقة على مقربة من جامع الزيتونة ومقر رئاسة الحكومة وتلاصقه المدرسة السليمانية التي بناها العثمانيون لاحقا في القرن الـ18 ومقر المعهد الوطني للتراث. وداخل المحل تتدلى لوحة على الجدار تحمل رسما للمقهى في أربعينات القرن الماضي رسمها الرسام المستشرق الروسي ألكسندر روبتزوف الذي قضى معظم حياته في تونس منذ قدم إليها عام 1914 وحتى وفاته عام 1949. وكان روبتزوف الذي يعد من أشهر فناني الرسم الذين عاشوا بتونس وتزين لوحاته حتى اليوم عدة مقرات اجتماعية وثقافية، من رواد المقهى. ويحرص لطفي على تقديم لوحته إلى الزبائن الذين يأتون بدافع الفضول والاطلاع. كما اعتاد لطفي على خوض نقاش يومي مع الزائرين لدحض ادعاءات أصحاب المقاهي المنافسة في الجوار بشأن المقهى الأقدم، ويعلق على ذلك بثقة “نعتبر مقهانا الأقدم في البلاد وفي أفريقيا. بعض المقاهي تريد منافستنا وتدعي أنها الأقدم ولكن الجميع يعرف أن مقهى العنبة هو الأقدم”. وبجانب شجرة العنب المظللة للزقاق، يفاخر صناع المقهى كونه يقدم أجود أنواع مشروبات العصير الطبيعية النادرة منذ نحو سبعين عاما ومن بينها عصير الخروب والعنب بجانب مشروب الشاي بمذاق مميز. ويضيف لطفي “نحن الوحيدون في المدينة وفي البلاد نقدم هذا النوع من العصير للزبائن على امتداد كامل فصول العام. نصنع هذا العصير بأنفسنا ودون أي إضافات كيميائية”. متعة لا مثيل لها متعة لا مثيل لها ويصر على التأكيد بأن شهرة المقهى لم تأت فقط من سمعته الضاربة في القدم ولكن أيضا من جودة الخدمات التي يقدمها لضيوفه على الرغم من بساطة المحل. ويستقبل المقهى يوميا الطلبة من كليات الطب والعلوم الإنسانية القريبة ومجموعات الشباب لتناول العصير والشاي والنرجيلة، كما يستقبل موظفي رئاسة الحكومة حيث لا يبعد مقرها سوى العشرات من الأمتار بين الأنهج والأزقة المتداخلة في المدينة العتيقة. ويقول أصحاب المحل “يأتي إلى هنا الوزراء والسياسيون والأدباء والمؤرخون ونخبة البلاد منذ عقود طويلة. يحبون هذا المكان على بساطته لأنه يحمل روح المدينة كما لو كانت في سنواتها الأولى منذ قرون ويشعرون بالراحة فيه”. ويمضي لطفي قائلا “يلتقي الجميع هنا وكأنهم أفراد عائلة واحدة. يسود المكان الاحترام والهدوء. يأتي أيضا السياح والعاملون بالسفارات الأجنبية المعتمدون بتونس وممثلو الصحافة الأجنبية للاطلاع على المقهى وتفاصيله”. ومثل باقي المحلات والمقاهي والمطاعم المنتشرة داخل المدينة تأثر مقهى العنبة بجائحة كورونا واضطر أصحابه إلى إغلاقه في أكثر من مرة تطبيقا للقيود التي فرضتها السلطات. لكن مع اقتراب شهر رمضان وتحسن الوضع الوبائي في البلاد مع الحد التدريجي من تلك القيود، يأمل لطفي وشقيقه في استعادة النسق الطبيعي للمسامرات على امتداد ليالي رمضان والجاذبة لأعداد كبيرة من الزبائن من عدة مشارب. ويقول لطفي “الوضع مختلف في شهر رمضان. يحرص الجميع على القدوم إلى هنا وقضاء وقت ممتع. نأمل ألا يتكرر الأمر ذاته مثل العام السابق”. وبشأن مستقبله المهني يضيف صاحب المحل “سأبقى في المقهى ما حييت. لن تفرقني عنه إلا الموت”. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :