قصص مدينة فاس العتيقة... يرويها لنا سكانها

  • 3/11/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تبدو مدينة فاس العتيقة، أو ما يُعرف أيضاً بـ"فاس البالي"، كصحنٍ مدوّرٍ من المطّل القريب من قبور المرينيين الذين حكموا بلاد المغرب، من القرن 13 حتى القرن 15. وتظهر جلياً أسطح البيوت القديمة، التي تعتليها صحون الستالايت، ومآذن المساجد، ومدابغ الجلود التي تشتهر بها والتي كانت دوماً الخلفية لصور المدينة العتيقة على محركات البحث على الانترنت. تأسّست المدينة في القرن التاسع الميلادي، وتحوّلت إلى عاصمة المغرب أثناء حكم المرينيين في القرن الـ13، وظّلت كذلك حتى عام 1912. بعد أن انتقلت العاصمة السياسية للبلاد إلى الرباط، بقيت فاس تُعرف بالعاصمة "العلمية والثقافية" للبلاد، خصوصاً في ظل وجود جامعة القرويين، التي أسّستها فاطمة الفهري القادمة من مدينة قيروان التونسية عام 859، لتُصبح أقدم جامعة في العالم لا تزال تفتح أبوابها للطلبة حتى يومنا هذا. حين أدرجت اليونسكو "المدينة العتيقة" في قائمة مواقع الإرث العالمي عام 1981، ذكرت أنها "مثال حي" من شرق المتوسط على مدينة مزدهرة أثّرت بشكل كبير، وخصوصاً بين القرنين 12 و15، على تطوّر فنون العمارة وتخطيط المدن، لا سيما في شمال أفريقيا والأندلس وأفريقيا جنوب الصحراء. إذا كنت قادماً من بلاد الشام، تأكد قبل دخولك المدينة العتيقة، من "باب بوجلود"، من الاستفسار عن معنى كل كلمة تسمعها، قبل أن تعتقد أنك فهمتها، وإن كانت باللغة العربية. فسيتبيّن لك، أن "الفندق" لديهم، هو المكان الذي يستأجر به كل صانع تقليدي غرفة خاصة، ويبيت فيه بعض الصانعين، ممّن يأتون من خارجها، وليس لديهم بيوت فيها. كما أن كلمة "الخدمة" مرادفة لكلمة "العمل"، بغض النظر عن نوعه، وكلمة "عيالات" تشير إلى "النساء" باللهجة الدارجة المغربية، على الرغم من شعور بعض النساء من سكان المناطق الأخرى بالإهانة من هذا المصطلح. بعد دخولك من باب بوجلود، تبدأ بشق طريقك وسط المطاعم الشعبية القريبة من البوابة، وبائعي كل أصناف اللحوم والخضروات والفواكه والفطائر المغربية، وبائعي صور الملك المغربي محمد السادس. في هذا الطريق، تتعرّف إلى المدرسة البوعنانية، التي يعود تاريخها إلى القرن الـ14، وقد سميّت بهذا الاسم نسبةً إلى مؤسسها السلطان أبو عنان المريني. ثم تبدأ التعرّف على أهل المدينة العتيقة.زينب الحفصي حين كان أقرانها ينشغلون بالدراسة، كانت زينب الحفصي تنشغل بالرسم بالقلم، كأنها "تحنّي اليدين". ظلّت تمارس هذه الهواية، منذ عمر الـ16، إلى يومنا هذا، لتصبح الحنّة مصدر دخلٍ لها إلى جانب صناعة الحلوى الفاسية. وُلدت زينب في "المنية الوسطى" في المدينة العتيقة عام 1969. كان والدها يعمل في صناعة السجاد، و"خاف عليها"، فطلب منها التوقف عن الذهاب إلى المدرسة بعد الصف الثاني الإعدادي. منذ ذاك، تحضر زينب "الحناية"، كما اشتهرت في هذا الوسط، مناسبات أهل فاس، التي لا تقتصر على الأعراس. إذ ترتبط الحنّة في الثقافة الشعبية الفاسية بكل مناسبة سعيدة، وكل كربة فرّجها الله للناس ووجب شكره عليها. تشرح زينب أن أهل فاس يقولون إن "الحنّة من أوراق الجنة"، ودائماً ينصح بعضهم بعضاً بالقول "حنّي كيحن عليك الله". لذلك تجد العروس تضع الحنّة قبل زفافها، والحبلى كذلك، والمريضة التي دخلت المستشفى وخرجت منها سالمةً. حتى المرأة "الكبيرة التي لم تتزوّج بعد"، ينصحها أهل المدينة، بحسب زينب، بوضع الحنّة حتى يرزقها الله الرجل المناسب. في زمنٍ مضى، كانت زينب تكسب مالاً كثيراً من مهنتها، فاستطاعت التوفير وشراء الذهب. ولكن الحال تبدّل اليوم، بوجود الكثير من "الحنايات" في السوق، فاضطرت إلى بيع كل الذهب الذي اشترته لمساعدة زوجها في الإنفاق على عائلتها، المكونة من ابنين وابنة واحدة. تُقسم زينب بأنها لن توافق على تزويج ابنتها قبل إنهاء المرحلة التعليمية التي تختارها هي، مهما كانت متقدمة، حتى لو قدّم لها العريس أكيالاً من الذهب. تستقبل زينب الزبائن من السيّاح في بيتها في المدينة العتيقة، وتذهب هي للعرائس والزبائن الآخرين في بيوتهم. لكنها ترفض رفضاً قاطعاً العمل في دكان في السوق "حتى لو متّ من الجوع"، تقول. فهي كانت وستبقى "بنت الدار مش بنت الزنقة!".أقوال جاهزة شاركغردرحلة بين شوارع فاس العتيقة ودردشة مع سكانها، تنقل لكم روح هذه المدينة التي تضم أقدم جامعة في العالمعبد الحميد المراكشي هناك يافطة معلّقة في الفندق الذي يعمل فيه عبد الحميد المراكشي، لا تزال في مكانها، على الأقل منذ أيار الفائت، يطالب فيها العاملون في اللباطة (تنظيف وغسل جلود الماعز والخراف والبقر) الملك المغربي بالتدخل وإنصافهم أمام من يأتون لهدم الفنادق وأخذ مصادر رزقهم "بدون قانون" على حد تعبيرهم. يشرح عبد الحميد، الذي وُلد في المدينة القديمة بفاس عام 1974، أنه كان وحده ذات ليلة في العام الفائت عندما جاءت السلطات المسؤولة وقامت بهدم جزء من سور الفندق، لكنّه احتجّ ووقع بينهم صدام، وعدوا بعده بإعادة بناء السور، لكنه لا يزال على حاله. يعي عبد الحميد، الذي ورث مهنة اللباطة من والده وجدّه، أن عليه والعاملين بجواره مغادرة الفندق لأنه بحاجة إلى ترميم وصيانة، فالمبنى آيل للسقوط كما يظهر لكل زائر. لكنه يحتجّ على قرار الهدم بدون تعويض أصحاب الصناعات التقليدية في الفندق. ترك عبد الحميد المدرسة بعد وصوله إلى الصف الخامس الابتدائي، وذهب يساعد والده في مهنة اللباطة، التي يقول عنها: "مهنة سهلة، لأنني تربيت هنا، أحب هذا العمل"، ويتباهى بأنه كان ينهي نحو 500 قطعة وأكثر يومياً. يضيف عبد الحميد بأن كل هؤلاء الرجال ورثوا هذه المهنة أباً عن جد، ولا يتقنون مهنةً أخرى، فكيف تتوقع الحكومة أنهم سيخرجون من الفنادق إلى حين الانتهاء من ترميمها بدون تعويضهم؟ ويشرح: "الحكومة تريد إخراجنا بدون تعويض لأنها أكلت الفلوس". مضيفاً أنهم سمعوا عن ملايين من المبادرة الوطنية لجلالة الملك، لترميم المباني وتعويض العاملين، ولكن "اللي كاينين هنا، كينهبوا الفلوس، ما يوصلوش". يلتفت عبد الحميد حوله، فيشاهد رجالاً مسنين، يحملون أكياساً معبأة بالصوف على ظهورهم المحنيّة، لكنه متأكد أنهم ليسوا متعبين. بل يشير إلى أحدهم ويقول: "لو لم يعمل هذا الرجل سيمرض".سناء زاهد تأخذ سناء زاهد الزائر في جولة داخل بيت عائلتها في حي أزليتين في المدينة العتيقة، وهو من أقدم أحيائها. إذ يعود تاريخ إنشائه إلى العصر الزناتي في القرنين 11 و12، وترجع تسميته إلى عين ماء تحمل اسم قبيلة أمازيغية تُدعى "أزليطن". وُلدت سناء في بيت آخر قرب هذا الحي في "الطلعة الصغيرة" عام 1979، لكن العائلة انتقلت إلى المنزل الحالي عام 1995. فالفن المعماري الآسر للمنزل، وموقعه ومساحته، كفيلان بجعله مشروعاً رائعاً لـ"دار ضيافة" سياحي من الطراز الأول في قلب المدينة. تقول سناء "والدي كان يشتغل كثيراً، وعائلته غنية، ولدينا مشاريع فلاحية في مناطق مجاورة لمدينة فاس، هكذا تمكّن من شراء المنزل، الذي يطرق بابه الكثير من المغاربة المقيمين والمغتربين، أو الأجانب،  طالبين شراءه. وتضيف سناء أن في حي أزلتين، نحو 30 دار ضيافة "كان فيهم ناس أصليين ولكن كلهم قرروا يبيعوا البيوت ويخرجوا". أما عائلة سناء، فكان لها رأي آخر. تقول: "أمي لا تحب أن نرحل ويأتي مكاننا أحد الأجانب، كانت تقول نحن مغاربة وأصلنا فاسي، وترفض الموضوع رفضاً قاطعاً". كما أنها لم تكن تحب الانتقال إلى وسط المدينة الجديدة، حيث المباني مختلفة جداً وليس لها الطابع التقليدي نفسه.فاطمة الخلفاوي تجلس فاطمة الخلفاوي كل صباح في دكانها في المدينة العتيقة منذ 15 عاماً، تستقبل الزبائن الذين يشترون منها المطرزات الفاسية تارة، وتكلّم النساء اللواتي يطرزن في بيوتهن بالهاتف تارة أخرى، فتعلمهن بالطلبات الجديدة، وخصوصاً لدور الضيافة والفنادق السياحية لتجهيزها. ولدت فاطمة في نواحي فاس، ثم انتقلت إليها عندما كان عمرها سنتين. كان والدها يعمل في صناعة البلغة المغربية (النعل التقليدية المغربية). ذهبت إلى المدرسة في صغرها، لكن معلمتها لم تستوعب أنها تكتب باليد اليُسرى بدلاً من اليُمنى، وظلت توبخها باستمرار إلى أن تركت الدراسة كلياً. لكنها ذكية تجارياً، كما تقول، فكانت تعمل في متجر للحلوى في المدينة الجديدة، منذ كانت في الـ15 من عمرها، حتى زواجها في سن الثامنة عشرة. أراد زوج فاطمة أن تترك العمل، فتركته وبقيت في المنزل إلى حين اقتراب موعد تقاعد زوجها، الذي كان يقود حافلة من فاس إلى تطوان في الشمال المغربي. اعتبرت فاطمة أن ما سيتقاضاه عند نهاية خدمته بالكاد يكفي للعائلة، وأخبرته بأنها "كتخرج تخدم". وبالفعل، خرجت تشتري المطرزات من السيدات العاملات في بيوتهن، ثم تبيعها للناس عند العيادات الطبية، والمكاتب، وغيرها من الأماكن المكتظة إلى أن استقرت في هذا الدكان، الذي أكسبها شهرتها بين السيّاح. تُخرج من الأدراج بطاقات شكر كُتبت بلغات مختلفة من زبائنها، وصوراً لفنادق ودور ضيافة كست طاولاتها من بضاعتها، وقصاصات من مجلات عديدة ظهرت على صفحاتها. تقول فاطمة، البالغة من العمر اليوم 77 عاماً، وقد توفي زوجها قبل سنوات، إنها لن تتخلى عن العمل، لأنها تريد أن تبقى مستقلة مادياً لا يُنفق عليها أحد.بيغونيا باراخون روبلس تجلس الجارة الإسبانية بيغونيا باراخون روبلس على سطح منزلها في المدينة العتيقة، تغمض عينيها وتستمع إلى أذان المغرب المنبعث من مساجد الحي بإنصات، ثم تقول "إنهم يكلمون الله الآن". انتقلت بيغونيا، التي تدرّب اليوغا، إلى فاس في أبريل 2015، لتتعلّم اللغة العربية في المركز الأميركي فيها. لم يدُر في خلدها آنذاك، أنها سوف تعيش فيها، وتفتح أستوديو لتعليم هذه الرياضة في المدينة العتيقة. تقول بيغونيا: "كنت أريد أن أقدم شيئاً للمجتمع هنا، وكانوا يريدون متطوعة تدرّب اليوغا للسيدات الناجيات من العنف الأسري، هكذا بدأت، ثم بدأ زملائي في المركز يطلبون مني تدريبهم". لكن هذا التغيير لم يكن الوحيد في حياة بيغونيا في فاس، فقد أسلمت العام الفائت، بعد حوارات طويلة مع علماء صوفيين، ومع الإمام الذي أعلنت إسلامها أمامه، بشروط. وُلدت بيغونيا في عائلة كاثوليكية، وكانت ملتزمة إلى حدٍ ما، حتى سن المراهقة، حين لم تعد تؤمن بوجود الله. في سن العشرين، شعرت بأزمة وجودية مجدداً، فبدأت تنهال الأسئلة عليها: لماذا نعيش؟ ما مغزى هذا الوجود؟ ما سر هذا الكون؟ تغمض الشابة الإسبانية عينيها وتستمع إلى أذان المغرب المنبعث من مساجد الحي، ثم تقول "إنهم يكلمون الله الآن" شاركغرد بدأت بيغونيا تتجه إلى التأمل لإيجاد أجوبة عن هذه الأسئلة، ثم عادت تؤمن بوجود الله شيئاً فشيئاً. توضح: "كلنا سواسية... ما دمت تؤمن بوجود الله، فأنت مسلم حكماً، ما الفرق؟ لا تهمني الورقة، يهمني ما في قلبي، وأن أكون إنسانة صالحة، بغض النظر عن الدين. لكنني أحتاج إلى الورقة، لأنني أريد الدخول إلى المساجد والصلاة مع الناس في هذه العاصمة الروحية للعالم الإسلامي، من أجل حياة أفضل لنا ولعائلاتنا وللعالم". تضيف بيغونيا "أخبرت الإمام أنني لن أقتل الخراف في العيد، وأن هناك طرق كثيرة للتضحية من أجل الله غير قتل الخراف، وأخبرته أنني لن ألبس الحجاب أيضاً، كما سأصطحب أمي إلى الكنيسة للصلاة". فقال لها الإمام بأن هذه تبقى مسائل بينها وبين الله، طالما أنها تحترم أركان الإسلام الخمسة "التي لا تشمل قتل الخراف أساساً". تتأمل بيغونيا في أفق المدينة ساعة الغروب، وتقول إن أكثر ما تحبه في فاس هو: غياب التوتر والقلق الدائمين المصاحبين لحياة الناس في البلاد الأوروبية، التي عاشت فيها سابقاً، وحرية التعبير عن الإيمان بالله بخلاف تلك البلاد أيضاً. تقول: "إذا قلت إنك تؤمن بوجود الله، فلا أحد يستغرب منك هنا!". لينا شنك صحفية ومترجمة أردنية حاصلة على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية. تهتم بالكتابة التي توّثق تجارب الناس وحكمتهم مهما كانوا بسطاء. تهوى تعلم اللغات ومراقبة المارة في كل مكان، والبحث عن المشترك بين الناس في كل أنحاء المعمورة. كلمات مفتاحية المغرب التعليقات

مشاركة :