كانت الولايات المتحدة قد وعدت بموجة من العقوبات في حالة غزو روسيا لأوكرانيا فإذا بها تعلن عن «تسونامي» حيث قررت يوم 8 مارس 2022 إضافة حظر النفط والغاز الروسي 2770 إجراء تقييديا تم تبنيها في جميع أنحاء العالم. كانت روسيا مستعدة لبعض هذه العقوبات لكنها فوجئت ببعض العقوبات الأخرى مثل تجميد نصف احتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي. إدراكا منه أن العقوبات لم تكن دائمًا فعالة في التاريخ، فقد استنتج أنه من الضروري الآن شنّ «حرب اقتصادية ومالية شاملة» و«التسبب في انهيار الاقتصاد الروسي»، على حد تعبير وزير الاقتصاد الفرنسي. وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات نادراً ما تكون فعالة، فإن واشنطن والاتحاد الأوروبي يلجآن إليها بشكل متزايد. قال النائب الديمقراطي المنتخب سيث مولتون للصحفيين أثناء الزيارة التي قام بها للعاصمة الأوكرانية كييف في نهاية ديسمبر 2021: «إذا غزا بوتين أوكرانيا فإني أريده أن يعرف أنه سيجد صعوبة في شراء الصودا من آلة البيع في غضون خمس دقائق». في بداية شهر يناير، تقدم نواب من نفس الحزب الديمقراطي بمشروع قانون ينص على «عقوبات وقائية»، وهو مفهوم غير معتاد في العلاقات الدولية، لأنه يرقى إلى الرد على شيء افتراضي. تضمن مشروع القانون أنه «في حالة حدوث تصعيد» تمنع البنوك الروسية الرئيسية من استخدام الرسائل المالية بالدولار والسويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك)، والتي تمر من خلالها غالبية المعاملات بين البنوك عبر العالم. من المؤكد أن الولايات المتحدة لم تخترع مسألة استخدام الضغط الاقتصادي للتأثير على الخصوم، فتاريخ العلاقات الدولية مليء بها، على غرار الحصار القاري الذي فرضه نابليون على أنجلترا عام 1806 أو ذلك الذي فرضه الرئيس أبراهام لنكولن ضد الولايات الجنوبية خلال الحرب الأهلية (1861-1865). ولكن في بداية القرن العشرين، أدرك الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون بالفعل القوة الاقتصادية لبلاده، ورأى أن هذا النوع من العمل يمكن أن يحل محلّ الحرب. من يختار هذا الإجراء الاقتصادي والسلمي والهادئ والقاتل فلن يضطر إلى اللجوء إلى القوة. كما أنه لا يضحّي بحياة أي فرد واحد خارج البلاد، لكنه يفرض على البلد المستهدف ضغوطًا لا يمكن لأمة حديثة أن تقاومها، على غرار تلك الإجراءات التي تم اتخاذها خلال مفاوضات معاهدة فرساي عام 1919 والتي كرست سلام الغالب على المغلوب. في الوقت نفسه، وسعيا لمراقبة العلاقات الدولية، تم إنشاء عصبة الأمم التي كانت تملك سلطة فرض عقوبات تهدف إلى منع تحول النزاعات التي تنشب بين البلدان إلى حروب مدمرة في العالم. أدت اعتداءات ألمانيا واليابان وإيطاليا إلى دفن عصبة الأمم في مهدها. في عام 1945، عادت الفكرة إلى ميثاق منظمة الأمم المتحدة، الذي أرسى مبدأ التسوية السلمية للنزاعات بين الدول وحظر اللجوء إلى القوة. في حالة تهديد السلم أو الإخلال به، فإنه يعهد إلى هيئة خاصة، مجلس الأمن -له وحده- سلطة اتخاذ عقوبات لوضع حد للاضطرابات. وهكذا، فإن المادة 41 من الميثاق تضع قائمة غير حصرية بالقيود المحتملة: «الانقطاع الكامل أو الجزئي للعلاقات الاقتصادية والسكك الحديدية، والبحرية، والجوية، والبريدية، والبرقية، والكهربائية وغيرها من وسائل الاتصال، وكذلك قطع العلاقات الدبلوماسية». اتسع نطاق سلاح العقوبات بمرور الوقت لتشمل العقوبات الاقتصادية (التجارية أو المالية)، والعسكرية (حظر الأسلحة)، والعقوبات الدبلوماسية والثقافية والرياضية، وهو ما يعكس حرص منظمة الأمم المتحدة على تنظيم هذه الممارسة التي تعتبر أكثر انتشارًا بين القوى العظمى منها بين الدول الأخرى. يجب ألا ننسى أن التنافس بين التحالفات والتكتلات يتم خارج قواعد الأمم المتحدة. ففي سنة 1950، عمدت الولايات المتحدة إلى إنشاء «لجنة تنسيق لمراقبة الصادرات المتعددة الأطراف»، وهي منظمة غير رسمية مقرها السفارة الأمريكية في باريس كان هدفها إعاقة تصدير المنتجات والتكنولوجيات إلى دول العالم الشيوعي. لا يزال تضييق الخناق على الدول المنافسة والمعادية يمثل جزءًا من الترسانة الأمريكية ضد كوبا (منذ عام 1962)، وفيتنام (1975-1994)، باستثناء حظر الأسلحة، الذي تم تعليقه فقط (في عام 2016) أو حتى كوريا الشمالية (منذ عام 1950). اتخذت الدول العربية المنتجة والمصدرة قرارا يتعلق بصادراتها البترولية إلى الدول الحليفة لإسرائيل. اقتصر اعتماد مجلس الأمن للعقوبات المتعددة الأطراف على بعض القضايا مثل فرض حظر الأسلحة ضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا في عام 1963 (تم التأكيد عليه في عام 1977)، ثم ضد إعلان الاستقلال من جانب واحد من قبل البيض في جنوب روديسيا (زمبابوي اليوم) في عام 1965. أدى انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 إلى ظهور ما يسمى «عقد العقوبات»، والذي تبنى خلاله مجلس الأمن ما لا يقل عن ثلاثة عشر نظامًا مقيِّدًا، بما في ذلك الحظر على العراق عقب اجتياح الكويت سنة 1990، كما فرض الحظر أيضا في عام 1993 ضد ليبيا بعد اتهامها بالضلوع في تفجير طائرتين (فوق لوكربي، اسكتلندا، في عام 1988، وفي النيجر في عام 1989). نتج عن هذا الإجراء الآثار المتوقعة حيث اعترفت طرابلس بمسؤوليتها (1999)، وتخلت عن برنامج أسلحة الدمار الشامل (2003) ووافقت على التعاون في التحقيقات الدولية. مارست الولايات المتحدة نفوذاً مهيمناً على مجلس الأمن. فمنذ التسعينيات أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية العنان لهذه الآلة القسرية. في الفترة ما بين عامي 1918 و1998، فرضت الحكومة الأمريكية قيودًا على التجارة مع الدول الخاضعة للعقوبات 115 مرة، بما في ذلك 64 مرة خلال التسعينيات، معظمها من جانب واحد. في عام 1997، كان ما يعادل نصف سكان العالم يعيشون تحت وطأة العقوبات الأمريكية. شكّل الحظر التجاري والمالي والعسكري القاسي المفروض على العراق في 6 أغسطس 1990 نقطة تحول إذ امتدت لعشر سنوات بعد حرب الخليج الأولى، بتفويض من مجلس الأمن، وقد أدى ذلك إلى تدمير اقتصاد البلاد وتسبب في نقص الغذاء والدواء: 500 ألف طفل فقدوا حياتهم بحسب صندوق الأمم المتحدة للطفولة. «الثمن يستحق كل هذا العناء».. ذلك ما قالته مادلين أولبرايت في عام 1996، التي كانت آنذاك سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة. في المقابل اتخذ مساعد الأمين العام للأمم المتحدة ومنسق العمليات الإنسانية في العراق دينيس هاليداي قرارا بالاستقالة في عام 1998 للتنديد بـ«تدمير مجتمع بأكمله». بينما رحب نيلسون مانديلا نفسه بالحظر المفروض على نظام الفصل العنصري باعتباره شرًّا ضروريًا لا بد منه، ارتفعت الأصوات للانتقاد، بدءًا من الحالة العراقية، لأن الحظر بشكل عام أصاب شعوبا بأكملها بشكل أعمى، كما أنه يقوض تلك الفكرة التي يزعم المدافع عنها أن العقوبات الاقتصادية هي بالضرورة أقل فتكًا من إرسال القوات العسكرية والدخول في الحروب والنزاعات. أدت تلك الانتقادات إلى ظهور فئة جديدة تسمى العقوبات «المستهدفة» أو «الذكية»، على عكس عمليات الحظر العامة التي تعتبر أسلوبا «غير عادل» أو «أعمى».. فهي تستهدف، على سبيل المثال، فئات معينة من المنتجات، مثل النفط والماس والأخشاب والأسلحة، مع استثناء الضروريات الأساسية (الغذاء والصحة). بالإضافة إلى ذلك، فإن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، على غرار الدول في علاقاتها الثنائية، يحدد المنظمات والأفراد بصفتهم مسؤولين عن الاضطرابات أو الجرائم الدولية. في عام 1998، شهد المجلس العسكري السيراليوني وزعماء الاتحاد الوطني للاستقلال التام لأنغولا (يونيتا)، وكذلك أقاربهم، تجميد ممتلكاتهم في الخارج بينما كان دخول بلدان معينة محظورًا عليهم. في البداية كانت هذه الإجراءات الفردية استثنائية لكنها ما لبثت أن انتشرت على نطاق واسع بعد 11 سبتمبر 2001 ، مع محاكمة قادة القاعدة ومحاربة تمويل الإرهاب. ونظرًا إلى أنه من الأسهل الحصول على توافق في الآراء بين الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن فإن إفريقيا هي القارة الأكثر تضررًا (السودان، كينيا، الصومال، جمهورية الكونغو الديمقراطية إلخ...) من خلال هذه التدابير الفردية المتعددة الأطراف التي تستهدف رؤساء الدول والوزراء والجنود ورؤساء المخابرات أو أجهزة الشرطة وأمراء الحرب والمتاجرين بالبشر. يظل الإطار القانوني غامضًا: يُعاقب الأفراد من دون محاكمة ومن دون أي إمكانية حقيقية للطعن. يمكن أن تجد دائرة الأسرة أو المقربين منهم أنفسهم أيضًا مدرجين في القائمة السوداء. لاحظت محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي مدى الحاجة إلى ضمانات قانونية، علما بأن محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي تمثل إحدى الولايات القضائية القليلة التي يمكن الرجوع إليها للتصدي لأي تعسف، مثلما حدث عندما عاقبت واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي الأثرياء بعد أن أقدمت سلطات الكرملين على ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 ، إذ إن هؤلاء الأثرياء لم يلعبوا أي دور. حدث بعد ذلك تطور في مجال استخدام الغرب لسلاح العقوبات، ويتمثل في اعتماد الاعتبارات المتعلقة بانتهاك حقوق الإنسان وطبيعة بعض الأنظمة التي تعتبر شمولية. وبينما كانت هذه المخاوف المرتبطة بمسألة حقوق الإنسان والأنظمة الشمولية تبرر أقل من 20% من العقوبات في العالم في نهاية الستينيات، فقد اتخذت كمبرر عام 2019 في أكثر من 42% منها. نادرًا ما يتدخل مجلس الأمن، الذي تتمثل مهمته في المقام الأول في ضمان السلم والأمن الدوليين بناء على هذه الاعتبارات وحدها. ففي يوم 17 مايو 1994، على سبيل المثال، برر مجلس الأمن الدولي فرض حظر الأسلحة في رواندا بالوضع الخطر (المجازر والعنف العرقي وأعداد اللاجئين) الذي يمثل «تهديدًا للسلام والأمن في المنطقة». في عام 2011، اعتبر مجلس الأمن الدولي أن السكان المدنيين يتعرضون لخطر داهم يهدد حياتهم، واستند على ذلك من أجل إصدار قرار بحظر الأسلحة في ليبيا والسماح بتدخل عسكري دولي مثير للجدل، بمشاركة طائرات وسفن الحلف الأطلنطي. لكن الدول قبل كل شيء، في مقدمتها الولايات المتحدة وأعضاء الاتحاد الأوروبي، هي التي تتذرع بهذه الأسباب. فتحت الولايات المتحدة الباب في نهاية عام 1974 من خلال تبني تعديل جاكسون - فانيك لقانون التجارة، والذي جعل منح الاعتمادات وإسناد وضع الدولة الأكثر تفضيلاً إلى الاتحاد السوفيتي مشروطاً بتحرير سياسة الهجرة الخاصة به. هكذا ولأول مرة، أُنشئت «صلة مشروطة للربط ما بين حقوق الإنسان والتجارة، علما بأن الهدف الأصلي والأساسي يتمثل في ربط السياسة الخارجية بالسياسة الداخلية». لم تقم سلطات واشنطن بتطبيع علاقاتها الاقتصادية مع روسيا حتى عام 2012، عندما تم تمرير قانون ماغنتسكي. قبل الكونجرس بتمرير ذلك القانون بشرط واحد يتمثل في فتح الباب أمام إمكانية استهداف المواطنين الروس المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، من دون الإشارة إلى روسيا كدولة. تم اعتماد قانون ماغنتسكي العالمي في عام 2017 تحت رئاسة دونالد ترامب وأبقى عليه خليفته جوزيف بايدن، ليمتد نطاق تطبيقه ليشمل بقية دول العالم وإلى أعمال الفساد، حيث تحتوي قائمة الأشخاص والكيانات المستهدفة من قبل الولايات المتحدة على 1623 صفحة وما يقرب من 37000 إدخال... منذ معاهدتي ماستريخت (1992) ولشبونة (2007) اللتين أرسيتا السياسة الأمنية الأوروبية المشتركة، أصبح الاتحاد الأوروبي، بعد الولايات المتحدة، المصدر الثاني للعقوبات في العالم. ومن ثم فإن الاتحاد الأوروبي يعتزم «فرض احترام حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون والحكم الرشيد». على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، أعدّ الاتحاد الأوروبي بدوره أداة جديدة لمساءلة الأفراد الذين ينتهكون حقوق الإنسان، وهو نوع من «قانون ماغنتسكي الأوروبي». في 22 مارس 2021، تبنى المجلس الأوروبي إجراءات تقييدية ضد 28 شخصًا وأربع منظمات من روسيا والصين وكوريا الشمالية وليبيا وإريتريا وجنوب السودان. يمنح الاتحاد الأوروبي نفسه هنا دور «الفارس الأبيض» مثل الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي لا يخلو من التناقضات ذلك أن إسرائيل على سبيل المثال لا تزال تفلت من «غضب» الأوروبيين وحرصهم على إعلاء مبادئ وقيم حقوق الإنسان، على الرغم من قرار مجلس الأمن لعام 2016 الذي أدان للمرة الأولى احتلال الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد عام 1967 بما فيها القدس الشرقية. أدت المناقشات الحالية داخل الاتحاد الأوروبي حول ما يجب فعله ضد روسيا إلى ظهور البراعة الخطابية. يبدو أن رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين تدعم موقف الولايات المتحدة بأن «نورد ستريم 2 لا يمكن استبعاده مسبقًا من قائمة العقوبات الوقائية». تقول أورسولا فون دير لاين: «نريد أن نبني عالم الغد كديمقراطيات مع شركاء متشابهين في التفكير». من بين شركاء الطاقة الذين يحتمل أن يحلوا محل روسيا لكن من هم شركاء الطاقة الجدد الذين سيحلون محل روسيا وتنطبق عليه قيم ومبادئ ومعايير الاتحاد الأوروبي. إن دور «الفارس الأبيض» يفرض على المرء أن يكون أهلا للقيام بمثل هذا الدور ولا يكون بالتالي سجله ملطخا. يمكن للمرء على سبيل المثال أن يعتبر أن جوليان أسانج، الذي طاردته الولايات المتحدة وسجن في لندن، سيكون مرشحًا للحصول بسهولة على اللجوء السياسي غير أن مختلف دول الاتحاد الأوروبي ترفض منحه ذلك. في مواجهة أزمة الهجرة، لم تعد اتفاقية عام 1951 بشأن اللاجئين تحترمها الدول السبع والعشرون. عشية الرئاسة الفرنسية، يساور منظمة العفو الدولية القلق أيضًا بشأن الهجمات على الحريات المدنية داخل الاتحاد الأوروبي. هل يمكن للاتحاد الأوروبي أن يظل يتذرع بورقة «غياب الديمقراطية» للضغط على الدول الأخرى وخاصة منها بلدان العالم الثالث، وهل يمكن للاتحاد الأوربي أن يظل مستمرا فهل يعطي دروساً؟ أخيرًا، صدقت الولايات المتحدة فقط على خمس من المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان الثماني عشرة. إذا كان الغرب عامة، والاتحاد الأوروبي، لا يتعامل مع «الدكتاتوريات» بنفس الشكل، فإن سلطات واشنطن بدورها تعدل بوصلة تطبيق أنظمة العقوبات الخاصة بها وفقًا للمصالح الجيوسياسية في الوقت الحالي. وهكذا، فقد عمقت الهند تعاونها العسكري مع روسيا من خلال التوقيع، ما بين عامي 2018 و2020، على سلسلة من العقود بقيمة 13.5 مليار دولار من دون أن ترى واشنطن أنه من المفيد تفعيل قانونها الخاص ضد نيودلهي والذي يتعلق باستهداف الدول المنافسة للولايات المتحدة الأمريكية، علما بأن هذا القانون قد شرع في واشنطن في سنة 2017 وهو يقضي بمعاقبة أي دعم مباشر أو غير مباشر لقطاع الدفاع الروسي. يجب القول إن الولايات المتحدة تتودد إلى نيودلهي على أمل جذبها إلى تحالفها المناهض للصين. وفي المقابل، فقد أظهرت وزارة الخزانة الأمريكية قدرًا أقل من التساهل تجاه الشركات الأوروبية. في عام 2019، فرضت الخزينة الأمريكية غرامة على 25 من هذه الشركات الأوروبية بمبلغ إجمالي قدره 1.288 مليار دولار. في هذا الصدد سدد بنك ستاندرد تشارترد البريطاني غرامة قدرها 657 مليون دولار لخرق الحظر المفروض على إيران كما كتب بنك UniCredit الإيطالي شيكًا بمبلغ 611 مليون دولار لنفس الأسباب. لعبت العقوبات، التي تستخدمها واشنطن بشكل بسيط للدفاع عن مصالحها، دورًا آخر للأوروبيين، داخليًا أكثر منه دوليًا. وبالفعل، فإن العقوبات هي «الأداة القسرية الوحيدة للسياسة الخارجية المتاحة للاتحاد الأوروبي»، فهي تحمل بالتالي تهمة رمزية قوية تسمح لدول الاتحاد بالظهور متحدة على الساحة الدولية، وبالتالي تأكيد ما يشبه الوجود من خلال تدابير ذات محتوى أخلاقي قوي. من منطلق الانحياز إلى واشنطن، في الصراع الداخلي بين الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو ومنافسه المعلن خوان غوايدو استنكرت الدول الأعضاء بصوت واحد «فرصة ضائعة للديمقراطية» واعتبرت أن ذلك يستوجب اتخاذ إجراءات تقييدية. إلى جانب بعض المسائل المبدئية، لا تزال دول الاتحاد منقسمة بشأن القضايا الأساسية للأمن والسلام. تضغط دول البلطيق وبولندا من أجل المواجهة السياسية مع روسيا لأسباب جغرافية وتاريخية، بينما يفكر الألمان، الذين يعتبرون الأكثر براغماتية، في إمدادات الغاز الخاصة بهم. في كلمة أمام مجلس الأمن في 15 سبتمبر 1997، أشارت الجمعية العامة إلى أن العقوبات تشكل تدبيرا أخيرًا عندما تفشل مختلف التدابير الأخرى. تقول كلير دالي، النائبة في البرلمان الإرلندي والعضو في البرلمان الأوروبي: «إن التدابير القسرية الأحادية الجانب لدبلوماسية الاتحاد الأوروبي تضر بالدبلوماسية. هذه أسلحة في خدمة الحفاظ على الهيمنة التي لم تعد منطقية في السياق المتعدد الأقطاب». رداً على القيود المتعلقة بالتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، اعتمدت موسكو حظراً على واردات المنتجات الزراعية من الاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية وأستراليا والنرويج. أعطى الأثر الحمائي لهذه الإجراءات دفعة للإنتاج الوطني في روسيا. سجلت مبيعات الأعمال الزراعية الأجنبية رقماً قياسياً بلغ 30 مليار دولار في عام 2020، أي أكثر من الغاز الطبيعي، ما جعل روسيا مُصدراً صافياً للمنتجات الزراعية ، وهي الأولى منذ الاتحاد السوفيتي. في المجال المالي، تسعى روسيا للحد من اعتمادها على الدولار وعلى النظام المالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية. لقد راكم البنك المركزي الروسي احتياطيات كبيرة (تعادل ثلث ناتجها المحلي الإجمالي) لإجهاض أي هجوم على عملتها. اعتبارًا من عام 2018، تخلصت روسيا بشكل كبير من سندات الخزانة الأمريكية -وهي الأولى بين القوى الناشئة- والتي استبدلت جزئيًا بالديون السيادية الصينية (التي أصبحت روسيا المشتري الأجنبي الرئيسي لها). وبالمثل، تسعى روسيا إلى حماية نظامها المصرفي من زعزعة الاستقرار من جانب الغرب. أطلقت موسكو في عام 2015 خدمة الرسائل المالية الخاصة بها (SPFS) بالإضافة إلى بطاقة مصرفية وطنية (Mir)، والتي ستضمن المعاملات داخل البلاد إذا استبعد الغربيون روسيا من Swift. في عام 2021 ، حصل 87% من السكان الروس على بطاقة (Mir) التي لا تكاد توفر ربع المعاملات، لأن الطبقات الوسطى لا تزال تفضل البطاقات الغربية، التي يمكن استخدامها في الخارج. يمكن لموسكو أن تعتمد على دعم بكين في مواجهة «المجتمع الدولي»، أي اللجوء إلى العقوبات التي شهدت انتشارا كبيرا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. قال نائب السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، السيد دميتري بوليانسكي، خلال الجلسة التي عقدت في مجلس الأمن في يوم 6 فبراير 2022: إن «عقوبات مجلس الأمن فقط هي قانونية» وتمثل «أداة مهمة للرد على التهديدات في العالم». وعلى نفس المنوال، أعلن السفير الصيني السيد تشانغ جون أن «العقوبات القسرية الأحادية الجانب (...) تؤدي فقط إلى تفاقم ميزان القوى». تؤكد كل من موسكو وبكين في مختلف المنابر الدولية مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية (المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة). حول هذه النقطة بالذات ظلت الصين ثابتة في التزامها بهذا المبدأ، وهي ترفض حتى الآن الاعتراف بضمّ شبه جزيرة القرم. لكن موسكو وبكين لا ترفضان مبدأ العقوبات. منذ عام 1971، قامت الصين بتقييد علاقاتها التجارية مع الدول التي تعترف بتايوان. من جانبها، علقت روسيا في عام 2015 رحلات الطيران «شارتر» إلى تركيا، وأعادت التأشيرات، وفرضت حظرًا على الفواكه والخضراوات بعد أن أسقط الجيش التركي طائرة روسية على الحدود السورية.
مشاركة :