نظامان على طرفي نقيض محاولات بغداد لم تكن جادة ولا كافية لحل المشاكل وتطبيع الأوضاع مع أربيل بل على العكس كانت في الكثير من الأحيان تتعمد وضع العراقيل والمطبات أمام نجاح أي مقاربة سياسية. يستحقون حياة أفضل رغم أن إقليم كردستان يتبع الدولة العراقية من الناحية الرسمية ولكنه يمتلك كيانا شبه مستقل في إطار اتحاد فيدرالي، يختلف تمام الاختلاف عن العراق كدولة طائفية وعنصرية منذ تأسيسه عام 1921، أو على الأقل منذ تدشين النظام الجمهوري على يد الزعيم عبدالكريم قاسم عام 1958. الفرق شاسع بينهما، عرقيا وسياسيا وثقافيا وعمرانيا ودينيا أيضا، وهذه الاختلافات الجوهرية هي التي أدّت إلى فشل معظم المباحثات السلمية والاتفاقات السياسية بينهما على مدار الحقب الماضية، لتزداد الهوة بينهما يوما بعد يوم، وتتراكم الأزمات العالقة حتى وصل الطرفان إلى طريق مسدود. حاول النظام البعثي ردم تلك الهوة الفاصلة وإرضاخ الأكراد للسلطة المركزية عن طريق استعمال القمع والقوة العسكرية المفرطة؛ عمليات القصف الكيمياوي وحملات الأنفال (عام 1988) التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف، ولكن دون جدوى، وبقي الحاجز النفسي والمجتمعي قائما إلى أن تهاوت أركانه عام 2003 وجاء نظام آخر وكُتِب الدستور وأدخلت فيه مادة مهمة لصالح الأكراد، وهي المادة 140 التي تعالج أهم مشكلة تاريخية تتعلق بالمناطق “المتنازع عليها” بينهم وبين الحكومات العراقية المتعاقبة ومن ضمنها مدينة كركوك الاستراتيجية، ولكن السلطات العراقية الجديدة لم تقم بتنفيذ بند واحد من هذه المادة الحيوية المهمة منذ صدورها عام 2005. وكان من نتائج تملّص حكام بغداد من تطبيقها أن تفاقمت المشاكل والأزمات حتى دفعت بالأكراد إلى إجراء استفتاء على الانفصال عن العراق وتشكيل دولتهم المستقلة. ورغم تغيير نظام الحكم في العراق وتثبيت الفيدرالية والدستور وتفعيل دور البرلمان والحكومة، إلا أن الصراع ظل قائما ومحتدما بين حكومة الإقليم وحكومة بغداد، وإن أخذ طابعا سياسيا هادئا يحتكم إلى التفاوض والحوار والدستور وقرارات المحكمة العليا بعيدا عن المواجهة العسكرية التقليدية. محاولات بغداد لم تكن جادة ولا كافية لحل المشاكل وتطبيع الأوضاع مع أربيل، بل على العكس كانت في الكثير من الأحيان تتعمد وضع العراقيل والمطبات أمام نجاح أيّ مقاربة سياسية، وذلك من خلال إثارة أزمات جانبية تلهي بها الأكراد عن مشاكل أساسية. ولكي ينشغل الأكراد عن المادة 140 الدستورية، أثيرت مشاكل لها أول وليس لها آخر تتعلق بقضايا النفط والغاز والمنافذ الحدودية وقطع رواتب موظفي الإقليم و.. غيرها الكثير، ورغم أن هذه القضايا وغيرها قد عالجها الدستور بشكل واضح، لم يُعمل بها ورُكنت على الرف! النتيجة، أن الأحزاب الشيعية الحاكمة وميليشياتها ومن ورائها إيران، وضعت إقليم كردستان في زاوية ضيقة وانهالت عليه بالضربات وحوّلته إلى هدف لمرمى نيرانها اليومية، ومادة دسمة للدعاية المغرضة وشماعة لفشلها الإداري والسياسي الذريع وعملت على تأجيج الرأي العام العراقي والعربي ضد الإقليم وحولت الأكراد إلى “بعبع”، فهو الانفصالي المتمرد، والصهيوني الإسرائيلي، والعميل الأميركي، وهو وراء الفساد المستشري في البلاد، وهو من يقف خلف الأموال المنهوبة من خزينة الدولة ومن عائدات النفط في البصرة والجنوب، رغم أن حصة بغداد من الميزانية 88 في المئة بينما حصة الإقليم أقل من 12 في المئة، لا يصل إلى الإقليم غير نسبة 5 في المئة منها. ومع ذلك انظر إلى مدن الإقليم وقارنها ببغداد والبصرة، لا توجد أوجه مقارنة بينهما أصلا. عاصمة الرشيد تعيش اليوم تحت الركام والنفايات بعد أن تحولت إلى مدينة أشباح مقفرة وموحشة، لتصنف أسوأ عاصمة في العالم، لا تصلح للعيش البشري، بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية. وهم مهما تظاهروا بالديمقراطية فإن عقليتهم في إدارة البلاد لا تختلف عن العقلية القمعية السابقة، مع فارق أن العقلية الحالية عقلية طائفية ممزوجة بالعنصرية. ورغم كل ما لحق بالإقليم من تجاوزات واعتداءات متكررة، قصف بالدرونات والصواريخ الباليستية وفرض لسياسة التجويع والتركيع، فإن الشعب الكردي مازال يمد يده إلى السلام ويطالب بتطبيق الدستور بما يضمن له سلامة العيش المشترك والحياة الكريمة مع الشعب العراقي الذي “يستحق حياة أفضل بكثير مما يعيشه الآن” بحسب قول رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني. محمد واني كاتب كردي عراقي
مشاركة :