لم يكن وصول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى تل أبيب لحضور اجتماع إقليمي في صحراء النقب بمشاركة من نظرائه من الإمارات والبحرين والمغرب ومصر مفاجئا، فالمنطقة تتهيأ لاستقبال حالة من عدم اليقين التي ستسود فيها مع اقتراب واشنطن من توقيع صفقة نووية مع إيران، وهو ما كان عاملا في تسارع الخطوات الدبلوماسية بهدف ترتيب الأوراق وإنضاج التفاهمات حول ما ترى فيه دول عديدة “تهديدا مشتركا”. قبل وصول الوزير الأميركي بأيام استضافت مدينة شرم الشيخ لقاء قمة جمع إسرائيل ومصر والإمارات. وأيضا الجمعة الماضي وقعت إسرائيل والمغرب مذكرة تفاهم بخصوص التعاون العسكري. وهي تطورات تفصح عن مخاوف من أن تقلص الولايات المتحدة التزاماتها الأمنية في الشرق الأوسط، لتتفرغ أكثر لمواجهة روسيا والصين باعتبارهما أكثر ما يُهدد هيمنتها وقيادتها للنظام الدولي؛ أي أن تتخلى عن حلفائها وشركائها الإقليميين لصالح أجندة عالمية. الولايات المتحدة تُدرك الدوافع وراء ميل إسرائيل لتبني نهج محايد نوعا ما في الحرب لحسابات متعلقة بإيران وسوريا في ظل هذه المخاوف والمتغيرات، جاءت زيارة وزير الخارجية الأميركي لتبديد الشكوك وترسيخ القناعات بأن الولايات المتحدة ملتزمة بأمن حلفائها وشركائها، وهو ما أكده بلينكن في لقائه مع رئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينيت، قائلا إن “الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي سواء في ظل اتفاق أو دونه”. لكن هذا الكلام ليس جديدا في الخطاب الأميركي، إذ سبق أن ألقاه الرئيس الأميركي جو بايدن على مسامع بينيت في أول لقاء جمعهما أواخر شهر أغسطس، عندما أكد له بصوت هادئ “طالما أنا رئيس للولايات المتحدة، لن تمتلك إيران سلاحا نوويا”. ومع ذلك، قالت إسرائيل أكثر من مرة إنّ أي اتفاق أميركي مع إيران ليس ملزما لها، وإنها ستتصرف بمفردها حيثما تشعر بالخطر. وهذا يُثير في الأذهان سؤالا أساسيا: هل ستكون هناك فرصة لعقد اتفاق إسرائيلي – أميركي حول كيفية التعامل مع إيران بشكل مشترك، أم ستذهب إسرائيل بعيدا في سياستها؟ الملف الإيراني كان ومازال موضوعا مُلتبسا في العلاقات الإسرائيلية – الأميركية وفي علاقات واشنطن مع بعض دول الخليج خلال الإدارات السابقة؛ فإدارة الرئيس باراك أوباما عقدت مفاوضات سرية مع إيران برعاية عُمانية دون إطلاع شركائها عليها، ومضت لتوقيع اتفاق عام 2015 رغم أن إسرائيل أبدت معارضة شديدة له. ومع مجيء إدارة دونالد ترامب أخذت العلاقات شكلا جديدا لم تعرفه من قبل. ولم يكن الغريب في الأمر أن ترامب مزق الاتفاق النووي واعتمد سياسة الضغوط القصوى لإرغام إيران على توقيع اتفاق جديد، بل الأكثر غرابة أن العلاقات الأميركية مع دول الشرق الأوسط أخذت طابع علاقات شخصية بين ترامب وعدد من زعماء المنطقة. ورغم أنّ سياسة ترامب هذه كان لها دور كبير في تعزيز العلاقات مع عدد من دول الشرق الأوسط بشكل غير مسبوق ومُثير للجدل في نفس الوقت، إلا أنّ مجيء إدارة الرئيس بايدن كان بمثابة فرصة لإعادة النظر في نوع السياسة الخارجية بما تشمله من مراجعة للكثير من الملفات والقضايا. ولم يكُن وصول الإدارة الجديدة بداية سيئة لبعض شركاء الولايات المتحدة من دول الخليج، بل بالنسبة إلى إسرائيل، إذ أنّ رئيس وزراء إسرائيل حينها بنيامين نتنياهو لم يهنئ بايدن بفوزه بالرئاسة ولم يجر بينهما أي اتصال هاتفي إلا بعد شهر من تولي بايدن رسميا منصبه ومجيء حكومة ائتلافية جديدة في إسرائيل، على وقع حرب غزة في شهر مايو وما رافقها من تدهور ملحوظ في علاقة إسرائيل مع الحزب الديمقراطي، لاسيما أعضاء الجناح التقدمي في الحزب، الذين انتقدوا علانية سلوك إسرائيل العدواني. حرصت تل أبيب على إزالة سوء الفهم أملا في ضمان بقاء الولايات المتحدة مُتفهمة لموقفها من إيران، واتفق وزير الخارجية الإسرائيلي مع نظيره الأميركي خلال مكالمة هاتفية على سياسة “لا مفاجآت”، أي ألا تُقدم إسرائيل على اتخاذ أي عمل عسكري ضد إيران بشكل منفرد دون التفاهم والتشاور مع واشنطن. وليس هذا فحسب، بل أيضا الالتزام بسياسة عدم إظهار الخلافات والانشقاقات في المواقف بينهما في وضح النهار (No day light) كان أيضا من ضمن بنود الاتفاق الشفوي. ورغم أن نتنياهو، الذي تحول إلى زعيم للمعارضة في الكنيست، انتقد بشدة هذا الاتفاق مُتبجحا بقوله إنّ الإدارات الأميركية وطوال سنوات حاولت أن تلزمه بمثل هكذا اتفاق إلا أنه رفض، لم يمنع هذا إسرائيل من أن تلتزم به، بدليل أنه عندما تعرضت السفينة الإسرائيلية “ميرسر ستريت” لهجوم بطائرة مسيرة قبالة سواحل عُمان يوليو الماضي، أي بعد شهر من الاتفاق الشفوي بين بلينكن ويائير لبيد، وأدى الهجوم إلى مقتل اثنين من طاقمها، أحدهما بريطاني الجنسية والآخر روماني، لم تعمد إسرائيل للقيام بأي فعل انفرادي ردا على الهجوم. اقتراب واشنطن من توقيع صفقة نووية مع إيران وخلال زيارته الأولى إلى البيت الأبيض حاول بينيت إقناع الرئيس بايدن بتبني سياسة جديدة ضد إيران يُمكن أن يعملا عليها سوية أسماها “ألف طعنة”، تشمل الاستمرار بالضغط الاقتصادي وبناء التحالفات الإقليمية والسياسية والاستمرار بتخريب المنشآت النووية من خلال الهجمات السيبرانية، مثلما حدث لمحطتي نطنز وفوردو، لكن بايدن لم يكن مقتنعا بفكرته وفضل الحديث عن إعطاء الدبلوماسية الفرصة لتجرب حظها في تقييد أنشطة إيران. وألقت الحرب الروسية على أوكرانيا بظلالها على الشرق الأوسط، ليس من زاوية أن الولايات المتحدة باتت أكثر لهفة للتوصل إلى اتفاق نووي وإطلاق صادرات إيران النفطية المحبوسة، بل من زاوية أن إسرائيل بدأت بتضخيم حجم الخطر الذي يُمكن أن تتعرض إليه بطريقة مشابهة لما حدث لأوكرانيا في حال تجاهلت الولايات المتحدة مطالبها. وكان التصريح الذي أدلى به لبيد خلال لقائه بلينكن في لاتفيا مطلع مارس بأنّ “هذه الحرب هي تذكير لإسرائيل… لدينا أصدقاء، لدينا حلفاء، لكن أمننا يجب أن يكون في أيدينا فقط”، رسالة واضحة بأنّ إسرائيل قد لا تلتزم باتفاق “لا مفاجآت” إن لم تبذل واشنطن جهدها لضمان أمن إسرائيل. لذلك، ليس غريبا أن تتخذ إسرائيل موقفا من حرب أوكرانيا أقرب إلى موسكو، ولم تصادق على قرار مجلس الأمن بإدانة روسيا. فضلا عن أنّ بينيت كان المسؤول الوحيد الذي قابل فلاديمير بوتين منذ اندلاع الحرب، عندما زاره وتباحث معه لثلاث ساعات، وكل هذا في سبيل إبقاء التنسيق الأمني بينهما مستمرا في ما يتعلق بسوريا؛ فطالما أن روسيا تسيطر على سماء سوريا وتمنح الطيران الإسرائيلي الضوء الأخضر لمواصلة هجماته ضد المقرات والقوات الإيرانية، من مصلحة تل أبيب الإبقاء على قناة اتصال مفتوحة للحفاظ على آلية “عدم التقاطع أو التضارب” مع الطيران الروسي. بالتأكيد، الولايات المتحدة تُدرك الدوافع وراء ميل إسرائيل لتبني نهج محايد نوعا ما في الحرب لحسابات متعلقة بإيران وسوريا، وهي تستحسن التحالفات التي تقيمها مع دول المنطقة. وعلى ما يبدو أنّ مباحثات بلينكن الأخيرة كانت بهدف طمأنة إسرائيل بأنّ واشنطن ملتزمة بضمان أمنها في ما يتعلق بعدم تسلُح إيران نوويا. بالمقابل على تل أبيب الالتزام بسياسة “لا مفاجآت” والامتناع عن اتخاذ أي فعل انفرادي ضمن حدود الأراضي الإيرانية، لكن في سوريا ستظل الاتصالات مفتوحة مع الجانب الروسي لمهاجمة ما تراه إسرائيل تهديدا لها.
مشاركة :