مصلحة حلف الناتو، أي مصلحة الولايات المتحدة، أن يكون الحلف على الحدود الروسية. إنه مشروع حرب من البداية يتناقض مع مصلحة أوروبا في السلام. بغباء وبشعور معذب بالتبعية فشلت أوروبا في منع الكارثة الأوكرانية من الوقوع. لقد تم التخطيط لذلك الفشل. اندفعت أوروبا بطريقة لا يمكن معها أن تتفادى الوقوع في الفخ الأمريكي. ومع السقوط في ذلك الفخ كان الفشل محتما. ولكن أما كان أمام أوروبا أن تتبع طريقة أخرى لمعالجة المسألة الأوكرانية لتمنع الكارثة وتنهي سوء الفهم بشكل إيجابي؟ ربما اعتقد الأوروبيون أن الأسلوب الأمريكي في الضغط على روسيا سينجو بأوكرانيا من العقاب الروسي. وحين صدموا بأن ذلك لم يكن حقيقيا فإنهم ركبوا رؤوسهم وقطعوا الاتصال بروسيا ولم يتعاملوا مع المسألة الأوكرانية بأنها جزء من الأمن الأوروبي وليس ثمة ما يهدد الولايات المتحدة من تداعياتها. لقد أدخلت الولايات المتحدة أوروبا كلها في قفص العداء لروسيا. كان ذلك نصرا لها، ليس على روسيا، بل على أوروبا. ولو كان هناك زعماء كبار في أوروبا ليسوا على شاكلة البريطاني بوريس جونسون والفرنسي إيمانويل ماكرون لما ارتكبت ذلك الخطأ ولكانت قد ميزت ما بين مصالح الناتو في القوة الدفاعية ومصالحها في السلام والحياة المشتركة التي لا تستبعد روسيا من منافعها. فروسيا هي الجار الأوروبي المباشر الذي يلزم التفاهم والتعايش معه الكثير من تقريب وجهات النظر في ما يخص الأمن الأوروبي. ولأن الولايات المتحدة بعيدة جغرافيا عن تداعيات الكارثة الأوكرانية كان يجب على الأوروبيين أن يضعوا مسافة بين قرارهم والقرار الأمريكي. ولكن كل شيء جرى كما لو أن أوروبا كانت منومة مغناطيسيا ومسيرة في طريق لا إرادة لها فيها. وهي الطريق التي صنعتها الولايات المتحدة لاستعادة أيام الحرب الباردة التي ظن الجميع أنه لا عودة إليها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتحرر دول أوروبا الشرقية من الشيوعية. بل إن عددا من تلك الدول انتقل إلى الفلك الأمريكي من خلال انتمائها إلى حلف الناتو وقبله إلى أوروبا من خلال انتمائها إلى الاتحاد الأوروبي. ولم تكن الحرب الباردة خيارا روسيا غير أن روسيا اختارت أن تتعامل بحيطة وحذر مع الفكرة الأمريكية في الاستفراد بالعالم انطلاقا من مبدأ القطب الواحد المتعالي على الآخرين، تكريسا لنظرية الانتصار عليهم. وإذا ما كان علينا أن نعود إلى الماضي القريب، يمكن أن نقول إن الطرف الأمريكي قد انتصر في الحرب الباردة من غير أن يطلق رصاصة واحدة، ولكن روسيا لم تكن هي الطرف الخاسر. لم ترث روسيا مشكلات الاتحاد السوفييتي كلها. لقد اهتمت بشأنها ولم تكن ترغب في الانغلاق على نفسها حتى أنها كانت مؤهلة أكثر من غيرها للانتماء إلى الاتحاد الأوروبي ولو أن ذلك قد حصل فإن أوروبا سيكون لها شأن آخر. لذلك دخلت الولايات المتحدة بعنف إلى المسألة الأوكرانية وحرضت الزعيم الأوكراني على المضي في شغبه المراهق. كان ذلك هو الحدث السيء الذي لم تدرك أبعاده أوروبا. وكما أرى فإن أوروبا قد أصيبت بغيبوبة حين استسلمت لمعالجة الأمريكيين للمسألة الأوكرانية. ولو لم تكن كذلك لما وقعت الحرب ولكانت أوروبا هي الطرف المعتدل الذي يسعى إلى نزع فتيل الأزمة. أما حين وقعت الحرب فإن أوروبا كانت أول الخاسرين. لم تخسر الولايات المتحدة شيئا. غيرت الحرب كل شيء في أوروبا. لم يصدق الأوروبيون أن الحرب يمكن أن تقع داخل قارتهم. لقد اعتادوا أن تقع الحرب في مكان بعيد يتعرفون عليه من خلال خرابه. أما أن يقع الخراب في دولة أوروبية فإن ذلك حدث يعيدهم إلى الحرب التي تم طي صفحتها. لقد اكتشف الأوروبيون يومها أن مصيرهم يتم التلاعب به من خلال الأزمة الأوكرانية التي هي أزمة أوروبية بالرغم من أن الولايات المتحدة قد اتخذت منها سببا للحرب على روسيا. لم تكن أوروبا في حاجة إلى تلك الحرب. هي حرب لا تخدمها بقدر ما تخدم الولايات المتحدة وهي تسعى إلى العودة إلى مناخات الحرب الباردة. وهي مناخات كانت أوروبا قد تحررت منها ونسيتها. لقد ساهمت أوروبا في تعقيد المسألة الأوكرانية، غير أنها اليوم تجد نفسها في مواجهة استحقاقات الكارثة فيما تقف الولايات المتحدة متفرجة وهي تراقب المشهد من بعيد. ليس مهما ما يجري في أوروبا، بل المهم أن توضع روسيا في المكان الذي كان الاتحاد السوفييتي يحتله باعتباره عدوا. التضحية بشعب أوكرانيا ستكون وسيلة للوصول إلى ذلك الهدف. أوروبا التي أخطأت في حل الأزمة الأوكرانية كانت قد خانت نفسها حين وضعت أمنها في غرفة العمليات العسكرية الأمريكية. } كاتب عراقي
مشاركة :