لقد سبق لنا التطرق إلى المعايير المزدوجة في التعليقات السياسية المتعلقة بالحرب في أوكرانيا على نطاق واسع - من الترحيب باللاجئين الأوكرانيين (بينما يواجه اللاجئون العرب أبوابًا مغلقة)، إلى دعم حق الأوكرانيين في تقرير المصير ومقاومة الغزو (فيما حرم الفلسطينيون من ذلك)، إلى الولايات المتحدة والأوروبيين الذين يشجبون عدم شرعية غزو دولة ذات سيادة (مع تجاهل تاريخنا). هناك شكل آخر إضافي من أشكال التعصب الأعمى في بعض المقارنات بين أوكرانيا والعالم العربي مثير للقلق بشكل خاص ويتطلب الرد. على سبيل المثال نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالا لكاتب عمود بارز يقارن فيه ما بين رد فعل العالم على استعداد روسيا لغزو أوكرانيا وردها على غزو صدام للكويت، حيث قال: «الكويت إمارة صغيرة في منطقة مزقتها الحرب. أوكرانيا دولة ديمقراطية تضم أكثر من 40 مليون شخص، في قارة كانت مسالمة إلى حد كبير وهي موطنً للديمقراطيات الكبرى». هناك الكثير مما هو مرفوض في هاتين الجملتين؛ والأكثر فظاعة هو التفكير الكامن وراء الكاتب، أي أن الأوكرانيين يستحقون الدفاع أكثر من الكويتيين. إن البحث من كثب يكشف عن التحيز (والجهل بالتاريخ) الذي أدى إلى هذه الملاحظة. يمكننا استبعاد العامل المتعلق بالفرق الكبير في الحجم ما بين الكويت وأوكرانيا. إنني على يقين من أن الكاتب لن يزعم أن مصر، بسبب حجمها الكبير، تستحق الدفاع أكثر من إسرائيل. أما بالنسبة إلى أشكال ونظم الحكم، فمن الواضح أن الكاتب لا يفهم أن الكويت، على الرغم من كونها مجتمعًا تقليديًا، تتمتع بثقافة سياسية نابضة بالحياة، مع انتخابات برلمانية تنافسية للغاية. إنه لا يعرف أيضا أن البرلمان له تاريخ طويل في تحدي وزراء الحكومة الكويتية، وكثيرا ما حدثت خلافات بينهما بشأن مسائل السياسة والمساءلة. في حين أن أوكرانيا لديها سلطة تنفيذية منتخبة ديمقراطياً، فإن حكمها لم يخلُ من الاضطرابات والشخصيات البغيضة واتهامات بالفساد. على عكس ما ذهب إليه كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز، فإنه لا يمكن لنظام الحكم أن يحدد جدارة هذه الأمة في الوجود أو حق هذا الشعب في تقرير المصير. يبدو أن كاتب العمود في صحيفة التايمز ينظر إلى أوكرانيا على أنها تستحق الدعم أكثر من الكويت لأن أوكرانيا تأتي من «أوروبا المسالمة إلى حد كبير» بينما تقع الكويت في العالم العربي «الذي مزقته الحرب» - بعبارة أخرى، الغزوات والعنف متوقعان من العرب، لكن ليس الأوروبيين. تكشف هذه الكلمات، على قلتها، الجهل المتعمد والخبيث بالتاريخ والكثير من روح التعصب. في القرن الماضي، خاض الأوروبيون حربين عالميتين دمويتين قتل فيهما أكثر من 60.000.000 شخص. أولاً، تم التضحية بملايين الشباب كرهائن في صراع ضار وضروس بين القوى الأوروبية. بعد ذلك، مهدت ولادة الفاشية في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا الطريق إلى حرب أكثر فتكًا بما في ذلك محاولة إبادة الشعب اليهودي والقتل الجماعي للبولنديين والروس والغجر وغيرهم، والقصف الجماعي الوحشي العشوائي للمدن (من كلا الجانبين). في نهاية الحرب، كانت أوروبا منقسمة حول إنشاء وتوسيع الاتحاد السوفيتي الذي قمع وقتل الملايين حيث عزز سيطرته وقمع أي تمرد بوحشية. أدت نهاية الحكم الشيوعي إلى المزيد من العنف في البوسنة وكوسوفو والشيشان وجورجيا وأوكرانيا، وصعود حركات اليمين المتطرف في جميع أنحاء أوروبا. إلى جانب هذه الصراعات الدامية والمدمرة، كانت القوى الأوروبية تقاتل لتوسيع المستعمرات التي ظهرت فيها حركات وطنية تكافح من أجل التحرر والاستقلال. أزهقت أرواح الملايين من العرب والأفارقة والآسيويين وهم يحاولون التخلص من المستعمرين الأوروبيين الذين احتلوا أراضيهم واستغلوا ثرواتهم وحرموهم من حقوقهم. لكن إرث أوروبا «المسالمة إلى حد كبير» لم يقف عند هذا الحد. فقد عمدت القوى الاستعمارية الأوروبية إلى رسم حدود مصطنعة تقسم الشعوب وتنشئ دولًا جديدة لخدمة مصالحها الخاصة. لقد عملت هذه القوى الاستعمارية الأوروبية أيضا على تأليب الجماعات الدينية أو القبلية أو العرقية ضد بعضها البعض، كما تركت القوى الأوروبية إرثًا من الانقسام وبذورًا للصراع في المستقبل. لم تكن أوروبا «سلمية إلى حد كبير»، كما أن أوروبا تستحق أن تلام إلى حد كبير على هذا العالم العربي الذي «مزقته الحرب». أنا لا أريد من هذا الكلام إلصاق كل شيء بأوروبا أو إعفاء العرب كليًا من المسؤولية عن وضعهم الحالي، ولا الإشارة إلى كاتب بعينه في صحيفة نيويورك تايمز. أنا أعبر عن وجهة نظري بالأحرى وأرى أن غزو أوكرانيا ليس وصمة عار منفردة على مشهد أوروبي نقي وخالص. يجب إدانة روسيا لغزوها، وتأكيد حق الأوكرانيين في حريتهم - ليس لأنهم أوروبيون من قارة «سلمية إلى حد كبير»، ولكن لأن الغزو والاحتلال من قبل القوى العدوانية خطأ أينما حدث وأيا كان. { رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :