تفاعل الصنعة الروائية والرؤية الفكرية في 'لا ماء يرويها'

  • 4/7/2022
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

1 - الصنعة الروائية والتجربة الوجودية لكم هي رائعة الرواية التي تفرض نفسها على القارئ في نوع من التفاعل الخلاق. فهي تتعمد أن تكون قولا ناقصا غير نهائي، محفزة بذلك القارئ على مطاردة خبث علاماتها، وشقوقها وفجواتها المبثوثة في طياتها الساحرة. تورط قارئها في عوالمها وهواجسها وأسئلتها. فيكتشف بفرحة عارمة ممزوجة بغير قليل من الألم، أنه حاضر بشكل أو بآخر، في  سيرورة تكونها وتطورها كرواية تمسك به مذنبا من حيث يدري أولا يدري. ولم يعد قادرا على القول بأنه لا يعرف بعد أن عرف، وتورط في أجوائها وفصولها الشديدة الترابط والتعقيد بذاته وهويته وتاريخه الفردي والجمعي.فيمتد الاهتمام ويتعمق شغف القراءة بحثا عما كتب حولها من مقالات. عندها تبين لي رغم قيمتها- المقالات- النقدية أنها اهتمت بجوانب هامة، خاصة على مستوى نقد النظام الأبوي في قيمه الذكورية التسلطية. ومدى انعكاسها السلبي والإقصائي للمرأة، ليس فقط من دائرة العلاقات الاجتماعية، بل أيضا من دائرة الحياة المجتمعية. لكن الأرضية الأساس التي ينبغي التركيز عليها وجعلها محور اهتمام رئيسي تم اغفالها، انسياقا، ربما، مع الموجة، غير المتبصرة نقديا، إلى حد ما، المتعلقة بقضية المرأة والمسألة النسوية بشكل خاص. كان من الممكن الانتباه إلى طية فنية وفكرية هي بمثابة القاعدة الأساس للتفاعل الجدلي بين الصنعة الروائية والرؤية الفكرية. فهي التي تستحق التفكير النقدي، وذلك نظرا للتميز الإبداعي الأصيل الذي حققته الرواية في قدرتها على الجمع بين الصنعة الروائية والتملك الفكري المعرفي للواقع الحي، في مستوياته المتعددة السياسية الاجتماعية، والاقتصادية الثقافية. وهذا ما حفزني للكتابة، لأن الرواية في قراءتها لا تقبل بالصمت لغة مألوفة في التفاعل البناء بينها وبين القارئ. حيث يجد نفسه جزءا عضويا منها، معنيا بمتنها ومبناها، بقصتها وخطابها. الشيء الذي يدفعه الى الكتابة رغبة في الاسهام في سيرورة استحالة اكتمالها. أن تجد نفسك أمام رواية مفتوحة النهاية" لا ماء يرويها"، للكاتبة نجاة عبد الصمد،حيث اكتمالها في استحالة نهايتها، فهذا يعني أنك أمام الرواية المستحيلة، التي تجعلك تدرك تعقد الذات/القارئ، وتعقد الآخر والعالم، في صيرورة واقع اجتماعي تاريخي لا تنتهي. وتزداد الفرضية التأويلية وضوحا وأنت تصطدم بالفصل الأول المعنون بـ " ليس آخرا" الذي يعبر صراحة عن أن اكتمال الرواية يتحقق في استحالتها أن تكون نهائية. لذلك مهما كانت الصنعة الروائية متمكنة من أدواتها الفنية والدلالية والفكرية، فإن تعقد الحياة والتجربة الوجودية بكل الديناميات التي تشكلها، تجعل من الصعب الاحاطة الشاملة بما يوجد في الواقع من قضايا وظواهر ومشكلات، وعذابات ومآسي إنسانية. الرواية واعية بهذا التحدي الإبداعي والفكري. لهذا لم تكن معنية بالرؤية الضيقة التي تجعلها تفتح دفتر الحساب العسير مع التسلط الذكوري انتصارا للمرأة في قهرها وعذاباتها وآلامها...وبالتالي كتابة سرديتها التي غيبها الاستبداد الأبوي بكل أسسه وخلفياته الثقافية والاجتماعية والدينية. والبنى السياسية الاقتصادية التي عملت باستمرار على تكريس وتأبيد القهر والنسيان في حق المرأة الى درجة الوأد الرمزي والوجودي. لهذا لم تختزل الرواية ما تعانيه المرأة من قهر،مشحون بمختلف أشكال العذاب والاستلاب، في الصراع المختزل المحدود ضد الذكورة/الرجل بمعناها الضيق، في العلاقة الاضطهادية المفعمة بالعدوانية من طرف الرجل في حق المرأة، (الزوجة، الأخت، البنت...). بل عملت على تعرية العلاقات الاجتماعية في ثقافتها وقيمها وسلوكياتها ومواقفها المقرفة. مبينة ما تخفيه تلك التعفنات في التفكير والدلالات والعلاقات، من أسس عميقة التجذر في الموروث الثقافي والديني، والتسلط الاستبدادي السياسي. فالرواية بفضل تمكنها الفني من الخصائص المعنوية الأدبية والدلالية والفكرية، تمكنت من أن توسع رؤيتها الفنية الفكرية قصد تكوين صورة شاملة، الى حد ما، للواقع متتبعة الديناميات الاجتماعية والنفسية، والاقتصادية والثقافية، ومحاولة فهم التصورات والمعتقدات الدينية، والقيم الثقافية الاجتماعية التي يتشربها الفرد منذ ولادته، من خلال التنشئة الاجتماعية، وعبر المؤسسات التربوية والاجتماعية والقانونية. وهذا ما يتأكد بمتعة ولذة مع فصول الرواية التي تجعل القارئ واعيا بجمالية صنعة الرواية في قدرتها الفنية على الذهاب عميقا في النبش في التاريخ الفردي والجماعي للشخصيات،  والحفر عن جذور التعفن السائد في نمط التفكير والرؤى والافكار المجتمعية، الثقافية والدينية. كما لو أننا أمام الوجه الاخر الأدبي الجمالي للبحث السوسيولوجي/ الانثروبولوجي الذي يمتد عميقا في تضاريس تشكل تخلف مجتمعاتنا. الرواية تنتج وتكون وتطور في سيرورة الشكل الروائي هذا الرهان  للوقوف عند حقيقة المستنقعات الآسنة للركود التاريخي الاجتماعي، الذي ولد مثل هذه العلاقات الاجتماعية، التي يدفع فيها الجميع الثمن باهظا، وإن بشكل متفاوت في الحدة والشدة والقهر والآلام. كما لو أن الرواية تكتب نفسها بمنطق الثورة في بحثها الموضوعي عن إمكانية التغيير الجذري لهذا الواقع الموبوء. وهذا ما جعلها تستنطق كل الخلفيات الاجتماعية الثقافية. وتسائل البنى السياسية والاقتصادية، والتصورات والمعتقدات. ولا تستثني المتخيل الثقافي الاجتماعي الذي يشكل البنى الذهنية في تمثلاتها وتصوراتها وأحكامها القيمية والأخلاقية. والجميل في الرواية أيضا، أن في صنعتها الفنية ما يبين بشكل مقنع ومشوق،قدرتها على تشكيل الواقع اللامرئي المتستر وراء الثنائيات النمطية للصراعات الزائفة السائدة على سطح العلاقات الاجتماعية، والتي تحول دون تكون وعي وفكر نقديين بالمعضلات والقضايا والأسئلة المحرقة التي ينبغي أن تطرح وتبحث بشكل رصين وعميق. فمع سيرورة القراءة تنفتح الرواية بصورة حيادية متوخية الموضوعية في تتبع التفاصيل الدقيقة، للتجربة الوجودية للإنسان، في رعبها وبشاعتها، وهي تشكل السلوكيات والمواقف والرؤى والأفكار والعواطف، بشكل يتخذ التطبيع الاجتماعي والثقافي بعدا مقدسا، كما لو أنها قوانين طبيعية إلهية منزلة لا تقبل الشك والسؤال والاحتجاج والتمرد. تحاول الرواية الحفر في أرضية هذه البديهيات التي سلخت القيمة الإنسانية من الرجل والمرأة بشكل مضاعف. وتجعلنا نقتنع بأن النظام الأبوي الذكوري غير صالح ولا شرعي قيميا وأخلاقيا، فنيا وجماليا. لأن الجميع، الفرد والجماعة والمجتمع، يدفع الثمن غاليا، بعيدا عن حياة حقيقية جديرة بأن تعاش. والرواية في ترابطها الجدلي بين الفني والفكري، بين الصنعة الروائية والرؤية الفكرية، تجعلنا ندرك بفرح عارم مدى قدرة الشكل الروائي على تقديم صورة عميقة ودقيقة للواقع الاجتماعي. وهذا يعني أن الرواية تنتج معرفة تفتح عيون ووعي القارئ على الأبعاد الحقيقية التي ينبغي أن تطالها الأسئلة، عوض اختزال طبيعة المجتمع الأبوي في الصراع بين الرجل والمرأة. لذلك تضع الرواية أمامنا السيرورات العميقة للآلام المولد للعذابات التي تعاش على مستوى الفرد والجماعة والمجتمع. وفي العلاقات الزوجية والأسرية والاجتماعية. أعتقد بأن الرواية كانت رائعة ومتميز في قدرتها وانشغالها الفني الجمالي والفكري بهذا الاتساع في الرؤية والمنظور، وفي اشتغالها على مجتمعاتنا من خلال اتخاذ منطقة السويداء في سوريا نموذجا قادرا على تمثيل الواقع العام للمجتمعات العربية الاسلامية. فكانت الرواية حريصة على تقديم صورة شاملة، باحثة في كل الزوايا والظلال المعتمة التي قلما ننتبه إليها في الثقافي والاجتماعي والسياسي والديني، وفي التمثلات والتصورات والمعتقدات الدينية والإيديولوجية الموروثة والمستحدثة. لا تريد منا الرواية أن نقف فقط عند اضطهاد وقهر النساء في مجتمعاتنا، وفضح الذكورة في تسلطها واستبدادها، بل هي تسعى بجهد فني في الإبداع خارج الصندوق الأدبي السائد،إلى عدم الاكتفاءبتبني تيمة المرأة والنسوية،حيث تهدف إلى سحب بساط  ادعاء زورا وبهتانا القيمة الإنسانية والأخلاقية والشرعية، من البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية للاستبداد الذكوري التسلطي، المسؤولة عن كل المآسي والعاهات، ومختلف أشكال الظلم والقهر التي شوهت ومسخت إنسانيتنا. وجعلتنا متورطين جميعا في تكريس همجية ما أسفل الشرط الحضاري الإنساني الحداثي في قيمه الكونية. لهذا أقول بأن الرواية نجحت في تغيير المنظور الإبداعي والفكري الضيق السائد حول واقع المرأة والمجتمع ككل. وما كانت الرواية لتستطيع التفكير فنيا ومعرفيا بهذا الشكل الروائي إلا من خلال تمكنها الفكري والنقدي من ثقافة – لا أقول موسوعية- دقيقة وعميقة تخص الشخصيات والتاريخ والمكان والزمان... أي كل ما يشكل الوسط السوسيوثقافي في بنياته العميقة المسؤولة عن قولبة وتنميط الفرد، وتكوين الجماعات والهويات والذهنيات... التي تجعل الفرد يفكر بهذه الطريقة دون أخرى، في نوع من الأحادية المتصلبة التي ولدتها الشفرة الوراثية للاشعور الثقافي الاجتماعي للعقل الجمعي . 2 - التفكير خارج الصندوق والإبداع بمنطق الثورة الرواية في صنعتها الفنية ورؤيتها الفكرية معنية بالتناول الجذري للمجتمع. فهي تحاول تعرية الأساس المولد لكل أنوع القهر والاضطهاد الصريح/المرأة، والمقنع/ الرجل. ذاك ما تقصده الرواية في تتبعها السردي للتاريخ الشخصي، والهوية الفردية/ الجماعية، والجرح النرجسي الذاتي لجميع شخصيات الرواية، رجالا ونساء. فهي تضعنا في صورة تكون الشخصيات ذهنيا وشخصيا وتاريخيا، في سياق ترابطات وتفاعلات معقدة مع الاجتماعي السياسي، والثقافي الديني. مع استحضار جميل لكل ما يشكلها من تصورات ومعتقدات وأحلام، وهوامات مشحونة بالعود الأبدي للانكسارات والخيبات والآلام الفادحة. تسرد الرواية كل هذه التفاصيل، وتضيء الزوايا المظلمة، بلغة جميلة مفعمة بالاستعارات المحركة للقلب والعقل. وهي لا تفعل هذا بدعوى البحث عن مسوغات ومبررات تبييض صفحة الرجل/الذكر، أو الاتكاء على أعذار مغلوطة إزاء ما يصدر عنه من مختلف أشكال العنف الرمزي والمادي. فالرواية لا تجعل منه ضحية واقع اجتماعي متعفن، بقدر ما هي معنية بالبنى الوبائية للنظام الأبوي التي تسحق الإنسان، خاصة المرأة، بصورة أكثر عنفا وقهرا وظلما. فالرؤية الفكرية التي تسند جدليا الصنعة الروائية، تشتغل ضد الاهتمام الشائع الذي يختزل  الفعل النسوي في دوائر مغلقة أحادية تبعا لآليات التفكير الذكوري الأعمى والمتصلب، الممسوس برهاب التنوع والتعدد والاختلاف.فالرواية تمارس التفكير التقاطعي خارج هذا الصندوق المانع لعملية التفكير النقدي التي بإمكانها رؤية بشاعة النظام الأبوي في العلاقات الاجتماعية، وفي الرؤية للذات والآخر والعالم. هذا يعني أنها تغير المنظور، وهي تطرح رؤية بديلة ونقيضة لما هو مهيمن وسائد ومانع للقيمة الإنسانية في العلاقات الاجتماعية المادية، والثقافية الرمزية. لذلك تتعمد بناء كل السيرورات الموجعة والمؤلمة المنتجة لمختلف أشكال القهر والاغتيال الرمزي، والمادي للقيمة والحصانة الإنسانية. كما تعري كل العذابات المرهقة والمستنزفة لوجودالمرأة كذات إنسانية حرة مستقلة، وفاعلة ونابضة بالحياة. وهي بذلك تفتح ذراعيها لكل التقاطعات المؤلمة في المجتمع التي مسها شر النظام الأبوي.  تورطنا الرواية في الكثير من التفاصيل التي تشكل وجودنا ونمط تفكيرنا ورؤيتنا للعالم، من خلال المواقف والوضعيات والسرديات التي تتأسس عليها العلاقات الاجتماعية والثقافية، من الأسرة الى كل هياكل المجتمع المادية والرمزية. تفعل ذلك بمنطق الثورة الراغبة في التغيير الجذري لكل تلك الأسس العطنة والمسؤولة عن تخلف وخراب العمق الإنساني. تضعنا الرواية في الصورة المضاءة بكل تلك التفاصيل، المتعلقة بسيرورات تشكل الأفراد والمجتمع. والتي غالبا ما تزيف الوعي وتهيمن على الادراك بالرؤى والأفكار والمعتقدات المغلوطة المانعة للتفكير، وعيش الحياة بالكرامة الجديرة بالقيمة الإنسانية. وهذا ما يمنح الرواية قيمتها الجمالية والفكرية في توسيعها للرؤية، رغبة في إبداع إجابة موضوعية بديلة للواقع الحي. فهي واعية أن مهمة البناء وتحريك المياه الآسنة تستلزم الاشتغال بمنطق التغيير الجذري، أي بمنطق الثورة، دون التورط في معاودة إنتاج هذا الموات الأبدي الذي تطاول مع القرون حتى كاد أن يكون قانونا طبيعيا وقدرا محتوما لا مفر منه، خاصة حين تم تسييجه بالقداسة الدينية. قراءة الرواية تبعا لهذا الفهم والوعي الذي تطرحه، يسهم بشكل أو بآخر في معركة الذات ضد الذات. محاولة عيش التغيير في أعمق معانيه، وهي تتخلص من كل ما يعيق جدلية الهدم والبناء. وامتلاك الأدوات القادرة على بناء كل التقاطعات الممكنة للعذابات الرهيبة، وجعلنا نعيش نوعا من الولادة من جديد. والاقتناع على أن منطلقات منطق الذكورة: دولة ومجتمعا وثقافة وهوية وتاريخا...، غير قادرة على الاعتراف بالإنسان، وبناء المجتمعات المضيافة المرحبة بالتنوع والتعدد والاختلاف. وبالموازاة مع ذلك الاعتراف بأن رؤية نسوية قادرة على أن تكون هذا البديل الذي تتوخاه وتسعى إليه الرواية في شكل وصنعة الإبداع بمنطق الثورة.

مشاركة :