شكلت الجماليات التي تكتنف الروح في الثقافة العربية، واحدة من الهواجس التي انشغل بها الأدب، والفن بصورة عامة، فلا تكاد تخلو تجربة شاعر أو أديب أو فنان من توظيف مفهوم الروح، إذ ظلت الروح بكل الغموض الذي يحيط بها، وما قدمه الخيال العربي من تصور لخفتها، وشفافيتها، وتجسدها في الهواء، ظلت مركزاً جمالياً يعاد إنتاجه في الأدب، والفن، والموسيقى. يتجلى هذا عند التوقف أمام الكثير من النصوص الشعرية، والأعمال الأدبية الروائية التي نسجت حكايتها حول الروح، أو حتى أشكال الموسيقى والغناء الذي رسم الروح صوتاً، وشخصت حضورها بدلالات كثيرة، منها ما تجسد في الفداء، ومنها في توصيف الحب والهيام، وآخر في مفارقة الحياة، والغياب، أو الألم والرحيل. ظل هذا الاشتغال واضحاً في مختلف الأجناس الإبداعية إلا أن الفنون البصرية تحملت الجهد الأكبر في توصيف الروح ورسم حضورها، ففي الأدب والشعر تظل المعاني متوارية عن التجسيد المادي الصوري، وتكفي الإشارة والتشبيه لاستحضار الروح، وكذلك الحال مع الموسيقى والغناء الذي يرتبط هو الآخر بالمفردة، وذلك ما بدا مغايراً للفنون البصرية التي تحتاج إلى نقل الروح من التخييل إلى التصوير والتجسيد أو حتى الإشارة البصرية المرسومة. لهذا بدا من السهل تلمس جماليات الروح في النص الشعري، باستحضار قصيدة مثل هوية الروح للشاعر الراحل الكبير محمود درويش، أو التوقف عند صورة الروح باقتباس مشاهد من روايات وقصص الأدب العالمي والعربي مثلما كتب ساراماغو في العمى: إن الضمير الأخلاقي لم يكن من اختراع فلاسفة الدهر الرابع حيث لم تكن الروح أكثر من فرضية مشوشة. مقابل هذا الظهور الواضح تظل اللوحة والصورة عالقة أمام تجسيد الروح، فلا تجد من سبيل إلى تصويرها سوى في العودة إلى ما قدمه النص، وما تخيله العقل البشري طوال بحثه عن إجابة حول حقيقة الروح، فظلت الروح ترسم على صورة الإنسان نفسه مع اشتغالات متعددة على شفافيتها وخفتها، أو راحت تحضر بوصفها كائناً يتصف بالرهافة والخفة وذلك لوصف الروح الطيبة، فيما تحضر بصورة الكائن الخبيث والشرير الثقيل للروح الشريرة. ينكشف هذا بصورة واضحة في كلاسيكيات اللوحات الأوروبية حيث انشغل بعض الفنانين في تجسيد النصوص الدينية ورسم حكايتها، فظلت الأرواح تظهر بصورة الجسد الشفيف السابح في الهواء، ولم يغب هذا التصور للروح منذ وقت مبكر من عمر الفن حتى اليوم، إذ اشتغل عددٌ من الفنانين العرب على الروح ضمن هذا الفضاء، وراح حضورها يتنوع في سياقات متعددة وفق المدرسة التي ينتمي إليها الفنان، فحضورها تعبيرياً مغاير عن حضورها تجريدياً. لذلك يمكن التوقف عند الروح في التشكيل الإماراتي بوصفها علامة كثر الاشتغال عليها، وراحت تتشكل بصور متعددة تكشف السياق الفكري والمرجعية البصرية الثقافية التي ينتمي إليها الفنان، فمنهم ما ظهرت الروح في تجاربهم بوصفها امتداداً لعلاقته مع الثقافة الشعبية الإماراتية، وما تشتمل عليه من حكايات في هذا السياق، ومنهم ما ظهرت ضمن المرجعيات الصوفية المتسامية التي توظف التراث الشعري العربي ورؤيته للروح، إضافة إلى الكثير من الاشتغالات التي ظهرت فيها الروح بوصفها صيغة مجردة تتحول ويتبدل حضورها وفق المسار البصري الذي تمضي فيه. ينكشف هذا بالوقوف عند النماذج الرائدة في التشكيل الإماراتي، إذ لا يمكن النظر إلى تجليات الروح في تجربة الفنان عبد الرحيم سالم من دون التوقف عند العلاقة التي نسجها بين الثقافة الشعبية الإماراتية واللوحة التعبيرية والتجريدية الحديثة، إذ اشتغل سالم على استحضار روح الفتاة الجميلة التي تروي حكايتها القصص الشعبية المعروفة بمهيرة، والتي هامت في الشوارع، وباتت مجنونة بعد أن أحبها رجل ورفضت حبه وعمل لها سحراً جعلها تفقد عقلها. يذهب سالم إلى هذه الحكاية ويجسد روح الفتاة مهيرة، بحيث تصبح هي رمز المرأة في أعماله كلها، فلا تمثل الروح بالنسبة إليه صيغة منفصلة عن الحكاية الشعبية التي يروي سيرتها بصرياً، ولا يشتغل على الروح في إطار معالجة الروح بقدر ما يستحضر روح الفتاة الراحلة، لذلك لا يظهر جهد سالم في تلمس صورة الروح في شكلها المتخيل ذاك الشفيف والخفيف والمتسامي، وإنما يجسد المرأة ذاتها بوصفها روحاً، وكأنه بذلك يخلق وسيطاً بين الشكل المجسد المادي، وروح الفتاة الغائبة. مقابل هذا يظهر جهد الفنانة فاطمة لوتاه في تمثيل الروح واستحضار شكلها المتخيل العائد في تصوره إلى ما قدمه الخيال العربي من تصور لشكل الروح، ففي عملها الذي طرحته في عام 2014 في المعرض العام لجمعية الفنون التشكيلية تستخدم تقنيات متعددة وخامات غريبة لرسم صورة الروح الشفافة التي تتشكل في تكوينها مع الجسد، لكن حضورها لا يشبه سوى خيط الدخان المتسامي. بذلك تجتهد الفنانة عبر توظيف ألياف ومواد متعددة في رسم شكل شفاف للجسد متخفف من الكثير من تفاصيله، ولا يرسم شكله سوى الخطوط الرئيسية التي تحكم شكل الجسد، فالفنانة تذهب إلى هذه المعالجة انطلاقاً من مرجعيات متصوفة تتخفف فيها من المادة والدنيوي إلى ما هو سماوي وعالٍ، فتوظف نصوص جلال الدين الرومي في وصفه للحياة والروح والدنيا. مقابل هذه الاشتغالات الواضحة على الروح تظهر اشتغالات متعددة في مختلف تجارب الفنانين الإماراتيين، فهي تتشكل بصورة المرأة في تجربة الفنانة نجاة مكي، وبصورة التكوين اللوني المنسجم مع فضائه في تجربة الفنان محمد القصاب، وفي صور أخرى متعددة في مختلف التجارب التشكيلية الإماراتية.
مشاركة :