أنتجت الفنون البصرية عبر تطورها الكثير من العلاقات مع سائر الأجناس الإبداعية، فلم تعد اللوحة ذات مكون واحد قوامه الشكل، والخط، واللون، وحسب، وإنما صار كل المحمول الفكري والحكائي والشعري والجمالي، من ركائز اللوحة وتتكئ عليه في بناء فضائها البصري. فليس غريباً أن يخوض الفنانون عميقاً في النص الشعري للخروج بتجربة تشكيلية جديدة، أو يلتقط أحدهم فضاءً بصرياً لعمل سردي ويعود ويشكله على سطح اللوحة. يمكن قراءة هذا على أكثر من مستوى في المشهد التشكيلي الإماراتي، ومن يقرأ هذا المشهد يجد فيه الكثير من الاشتغالات التي أبدعت الكثير من الأعمال التشكيلية بالاستفادة من هذه الأجناس التي ورد ذكرها، والتي يمكن اعتبارها محمولات إبداعية وافرة بالأفكار، هنا، تصبح اللوحة امتداداً للقصيدة، وربما للقصة والأمر نفسه ينطبق على الحكاية الشعبية، أو الموسيقى وغيرها من أشكال الفعل الإبداعي. وبالتوقف عن بعض تمظهرات النص الحكائي والقصة المروية في العمل الفني التشكيلي، نكتشف أن هناك الكثير من التجارب التشكيلية الإماراتية التي يمكن الوقوف عندها، هذه الأعمال اعتمدت على محمول سردي كبير، هو في الحقيقة من المجالات التي أثرت التجربة التشكيلية المحلية ومدتها بخزان بصري، يمكن الاشتغال عليه في أبعاد كثيرة، فبات المحمول الحكائي ظاهراً بتجليات اللون، والتكوين، والخط داخل العمل التشكيلي الإماراتي. وبدراسة هذه التجارب، نجد أنها لم تعتمد أفقاً واحداً من الجماليات السردية التي تغني المخيال البصري للفنان، وإنما ذهبت نحو مجالات أخرى تمثلت في اشتغال الفنان الإماراتي على الموروث الشعبي، ومحاولة تحقيق الهوية البصرية بالاستناد على هذا الموروث الزاخر، الذي لعب دوراً في تشكيل الهوية الإماراتية في اشتغالاتها الفنية والجمالية. يكشف ذلك مستوى العلاقة التي شكلها الفنان الإماراتي مع النص الحكائي القصصي في عمله التشكيلي، إذ اختار بعضهم الحكاية الشعبية التراثية ذات المدلول الأسطوري، والشعبوي في المجتمع، وبعضهم اختار نصوصاً حكائية من سيرته الذاتية وراح يعمل عليها بوصفها جزءاً من النسيج التراثي الإماراتي الشعبي، إضافة إلى الذين وثقوا حكايات الأمكنة بصرياً، ورسموا مسار تحولها مستندين على ما ظلت ترويه الحكاية الشفهية. يفرض هذا العمل على النص السردي الحكائي في اللوحة الإماراتية، جملة من التساؤلات التي يمكن من خلال الإجابة عنها، الوصول إلى جوهر العلاقة بين الفنون الإبداعية بصورة عامة، وتلمس خصوصية الحكاية الشعبية في الإمارات في العمل الفني التشكيلي، إضافة إلى التعرف إلى المساحات التي اختارها الفنان الإماراتي لتحقيق هويته البصرية. فكيف استطاع الفنان الإماراتي إعادة إنتاج النص السردي بصرياً؟ وما الرموز التي اختارها لتحقيق ذلك؟ وهل ظلت اللوحة بحاجة لشرح مرافق للتعرف إلى خلفيتها السردية الحكائية؟ وإلى أي حد نجح الفنان الإماراتي في رسم سرديته الحكائية بصرياً؟ وهل شكل مجمل الاشتغال في هذا السياق هوية جمالية للفنان الإماراتي؟ للإجابة عن هذه التساؤلات، ينبغي تتبع نماذج من الفنانين الفاعلين في الحركة التشكيلية، فالمعاين لأعمالهم يجد صورة الحكاية ظاهرة بمستويات واشتغالات عديدة، مثلاً لا يمكن تلمس تجربة الفنان عبد الرحيم سالم من دون الوقوف عند الحكاية السردية التراثية التي نجح في تمثيلها جمالياً عبر الاشتغال على حكاية مهيرة تلك الفتاة التي عرفتها الشارقة في تاريخها القديم، وكانت فاتنة الجمال لدرجة أنها حين رفضت الزواج بأحد الأشخاص انتقم منها بسحر جعلها تدور في الشوارع معفرة، حافية القدمين. طرح سالم حكاية مهيرة بصيغتها البصرية المكثفة لرمزية المرأة، فظلت الحكاية ترافقه في مجمل تجربته، وتأخذ أبعادها في التحول، والحذف، والإضافة، حتى باتت قرينة تجربته بكاملها، وبات واحداً من الأسماء التشكيلية البارزة التي فتحت نافذة في العمل البصري لينظر إلى وقائع قصة مروية شفاهياً، قابلة للتحول إلى فكرة إنسانية مجردة، وفي الوقت نفسه يعثر على هويته التشكيلية المتصلة بمجمل الهوية التراثية للمجتمع الإماراتي. إلى جانب ذلك نجد الفنانة نجاة مكي تذهب إلى سيرتها الذاتية، وتنتقي مشاهد من حكايات الطفولة لتحولها إلى فضاء بصري مشرع على مختلف أشكال التأويل، ومن يتابع أعمال د. مكي يكتشف أنها وظفت حكاية والدها الذي كان يعمل في بيع العطارة والزهورات، وقدمت أولى تجاربها التشكيلية في هذه السياق، حيث استخدمت البهارات بوصفها ألواناً، كما تعاملت مع درجاتها المتفاوتة، كما لو أنها باليتة لونية. لم تتوقف د. مكي عند هذا الحد، بل أنتجت من خلال ما كانت تقوم به أمها، التي كانت تطرز الأثواب، وتزيّن الجدران بالزخارف محمولاً حكائياً قابلاً للتمظهر على سطح اللوحة، فجاءت مرحلة من تجربتها التشكيلية مشغولة في التكوينات الزخرفية الدقيقة، والعلامات الهندسية التي تفضي إلى سيرتها مع والدتها، وتكشف من جانب آخر الهوية وقدرة العمل على استيعاب وهضم مختلف أشكال الفعل الإنساني حتى الصوت منها. إضافة إلى تجربة مكي وسالم، فإن المشهد التشكيلي الإماراتي لا يمكنه تجاوز قامة تشكيلية مثل الفنان عبد القادر الريس الذي نجح في تحويل سيرة المكان الشفاهية والمروية على ألسن كبار السن، إلى أعمال بصرية واقعية باذخة، توثق المكان وتنقله من مساحة الواقعي، إلى الشفاهي، وصولاً إلى المرئي. عمل الريس في تجربته على رسم المكان في احتمالات عدة، منها ما كان جمالياً بحتاً، وآخر تخلص فيه من مسار الواقعية القائم على التجسيد، إلى جانب العمل على المكان الحامل للحكاية، والذي يذكّر الإماراتيين بسيرة أجدادهم، فمثلاً رسم الكثير من البيوت القديمة، والصخور، والتلال التي عُرفت بأسماء معينة، وظل الموروث الشعبي يروي حكاياته عنها، كأن يكون لها اسم فارس، أو اسم شاعر أقام في ذلك المكان. يمكن القول إن النص الحكائي السردي بشكله المروي شفاهياً، والمعاش واقعياً، والمتجسد في سيرة الفنانين، شكل واحدة من الركائز التي استندت إليها التجارب التشكيلية في بناء مشروعها البصري، ونجح الفنانون في تحويل الحكاية والقصة إلى واحدة من دعائم الهوية الجمالية الخاصة في مشروعاتهم الفنية.
مشاركة :