أسفرت نتائج الجولة الأولى من التصويت في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي أجريت في 10 أبريل 2022، عن مواجهة الرئيس «إيمانويل ماكرون» مرشح حزب «الجمهورية إلى الأمام»، و«مارين لوبان» زعيمة «التجمع الوطني»، في جولة الإعادة الثانية؛ ليصبح سيناريو مُعادا لما حدث في انتخابات عام 2017. وكما أوجز «المجلس الأطلسي»، فإن هذه «مواجهة فرنسية مألوفة»، وإن كانت «محفوفة بمخاوف أكبر»، من ذي قبل. ونظراً إلى أن هذه قد تكون الفرصة الفضلى والأخيرة لأبرز مرشحة يمينية في فرنسا للفوز بالرئاسة في ظل محاولتها الثالثة؛ فقد أبدى المعلقون الغربيون اهتمامًا كبيرًا بما قد يعني فوز «لوبان»، بالنسبة إلى فرنسا والتحالف الغربي بشكل أوسع. وعلى الرغم من أن «ماكرون» لا يزال هو المفضل للاستمرار في رئاسة البلاد، فقد تم الاستشهاد أيضًا بالشكوك الداخلية والخارجية التي تنطوي على إمكانية المفاضلة بين اثنين من المرشحين، وصفتهما شبكة «سي بي إس نيوز» بأنهما يمتلكان «رؤى متعارضة بشدة لفرنسا». ومع استخدام النظام الانتخابي الفرنسي لشكل متعدد الجولات للتخلص من المرشحين المهمشين وترك خيار للناخبين للاختيار بين أكبر فائزين في الأصوات؛ قدمت الجولة الأولى مقياسًا قويًا لشعبية الرئيس الحالي وأقرب منافسيه. وكان من المتوقع أن يُؤمن «ماكرون» تقدمًا قويًا في هذه المرحلة المبكرة، وهو ما وضحه «بول كيربي»، من شبكة «بي بي سي نيوز»، من أنه «حقق فوزًا مقنعًا في الجولة الأولى»، على الرغم من تحذيره أيضًا بأن «استطلاعات الرأي تشير إلى أن اللجوء إلى الإعادة قد يكون أقرب بكثير في ضوء الارتفاع الملحوظ لدعم لوبان». ومع فرز جميع الأصوات، حصل «ماكرون» على 27.6% من الأصوات الأولية، تبعته «لوبان» بنسبة 23.41%، بينما حصل المرشح اليساري «جان ميلنشون» على 21.95%، لكنه انسحب من المنافسة. وتواجد تسعة مرشحين آخرين لمنصب الرئاسة، رغم أن أيًا منهم لم يحصل على أكثر من 10% من الأصوات. وكما في عام 2017، عانت الأحزاب السياسية من انتكاسات كبيرة. وكتب «كيربي» أن هذه الانتخابات «ستُذكر باعتبارها «كارثة» بالنسبة إلى الأحزاب الجمهورية والاشتراكية مع انخفاض تأييدها في استطلاعات الرأي وتراجع تأثيرها». ولاحظ «جيرار أرو»، من «المجلس الأطلسي»، فشل الأحزاب الأكثر رسوخًا في البلاد، واستبدال أخرى شعبوية بها، موضحا أن السياسة الفرنسية الآن في «حالة من الاضمحلال»، مع كون «الخصوم الموثوق بهم الوحيدين لـ«الكتلة الوسطية» يتمثلون في «المتطرفين». وبالمثل، رأت «ماري جوردان»، الزميلة بالمجلس أيضا، أن «اضطراب المشهد السياسي الفرنسي أمر ملموس». وعلى الرغم من تحقيق «ماكرون» تقدمًا قويًا في استطلاعات الرأي خلال الأسابيع التي سبقت الانتخابات، مع توقع شبكة «سي بي اس نيوز» أنه «سيكون أول رئيس منذ 20 عامًا يفوز بولاية ثانية»، أشار المحللون إلى الغزو الروسي لأوكرانيا، وضيق الوقت للحملة، كأسباب لتراجع نسب الاقتراع، حيث إنه مع سيطرة أحداث الغزو على المشهد السياسي الأوروبي، وبالتالي اهتمام القادة الأوروبيين مثل ماكرون، تأثر جدول حملة الرئيس بشكل سلبي، إذ بدأ حملته بدوام كامل قبل ثمانية أيام فقط من بدء الاقتراع. ومع ذلك، فإن هناك أسبابا أخرى لتراجع شعبيته. وأشار «روجر كوهين»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى «عدم الرضا بشأن ارتفاع الأسعار، والأمن، والهجرة»، وأنه اتُهم بأنه «غير متواصل» مع مشاكل الفرنسيين، بينما أشار أيضًا إلى أن «يسار الوسط»، الذي كان في السابق مصدر دعم لماكرون، قد شعر بالخيانة بعد تبنيه سياسات يمينية، وفي الوقت ذاته، نوه إلى أن الرئيس كافح من أجل «التغلب على صورة العزلة أثناء وجوده في المنصب». وبالتالي، أصبحت نتيجة الجولة الأولى هي أنه «بينما لا يزال من المتوقع أن يحتفظ ماكرون بالسلطة، فقد انخفضت فرص نجاحه». ومن وجهة نظر «أرو»، فإن نتائج هذه الجولة «أكدت أن الرئيس لم ينجح خلال ولايته في التفاعل مع الأزمة السياسية التي استغلها في عام 2017 ليفوز في الانتخابات بشكل غير متوقع»، وهو ما جعله يعترف لمؤيديه: «لا تتسرعوا، لم يتقرر أي شيء بعد». في غضون ذلك، لاحظ المراقبون أن «لوبان»، زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة المناهضة للهجرة، قد خففت من الصورة المتشددة للحزب الذي أسسه والدها «جان ماري لوبان»، بما في ذلك إعادة تسميته التجمع الوطني عام 2018. وتم الاستشهاد بتركيزها على القضايا الاقتصادية كتكتيك انتخابي قوي. وأوضح «كيربي» أنها «بنت حملتها حول أزمة تكلفة المعيشة، والوعد بتخفيضات ضريبية، وإعفاء من ضريبة الدخل لمن هم دون الثلاثين». ومع ذلك، فإن توجهاتها المناهضة للهجرة والقومية تبقى «مصدر قلق». وعلى الرغم من أن «كيربي» أوضح أن حملتها الثالثة للرئاسة كانت «أقل تركيزًا على القومية، وأنها «نجحت في تخفيف حدة خطابها»؛ فإن هناك اعترافًا بأن المواقف القومية والمناهضة للهجرة تظل «أمرًا محوريا في أيديولوجية التجمع الوطني»، في ظل أنها لا تزال «تريد إجراء استفتاء حول تقييد الهجرة»، و«حظر الحجاب في الأماكن العامة». وذكرت شبكة «سي بي إس نيوز» أنها «تريد التراجع عن بعض الحقوق للمسلمين، فضلًا عن تقليص الهجرة إلى أوروبا بشكل جذري»، وأضاف «كوهين» أن لديها «قناعة بأن الفرنسيين يجب أن يتمتعوا بامتياز على الأجانب». وحول سبب احتفاظها بأسهم مرتفعة في استطلاعات الرأي، لاحظ «كوهين» كيف ساعدها ترشيح «إيريك زمور»، المعادي للمهاجرين بشدة، إذ عزز من صورتها لتبدو «أقل تشددا»، عند مقارنتها معه. وبالمثل، أوضح «أرو» أن حملتها تجنبت الجوانب الأكثر إثارة للجدل في برنامجها اليميني المتطرف، وأن المنافسة من المرشحين اليمينيين المتطرفين الآخرين جعلتها «تظهر بصورة معتدلة». وبالفعل، انعكست دعوة «زمور» مؤيديه إلى انتخاب «لوبان»، وتركيز الأخيرة على القضايا الاقتصادية على تصنيفاتها بـ«صورة إيجابية»، إذ ارتفعت نسبة مؤيديها إلى 39%، بعد أن كانت عند 21% فقط عام 2017. ومع ذلك، أوضح «ميشيل باربيرو»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن «الغالبية العظمى من الناخبين مازالوا يعتقدون أن ماكرون يتمتع بوضع أكثر قوة من لوبان زعيمة اليمين المتطرف». وبحسب «كوهين»، فإنه بغضّ النظر عن الأحزاب ومرشحي الرئاسة الآخرين المناهضين للهجرة، فإن «الأداء القوي» لـ«لوبان» يقف وراءه عنصر «الجاذبية للتيارات القومية العنصرية وكراهية الأجانب في أوروبا». ولاحظ «كيربي» أيضًا أنه «يمكنها الاعتماد على مؤيدي زمور»، الذين حصلوا على 7% من الأصوات في النتائج الأولية للجولة الأولى، والذين قد يدعمونها في الجولة الثانية. وعندما يتم إضافة هذا الرقم مع نتائج أنصار الأحزاب الأخرى ذات السياسات المماثلة، فإنه يمكنها، بحسب «بي بي سي نيوز»، الحصول على نسبة تبلغ 33% من إجمالي الأصوات». وفي المقابل، رفض المرشحون المعتدلون من تياري اليسار واليمين وجود «لوبان» في جولة الإعادة مرة أخرى وأعربوا عن دعمهم لماكرون كوسيلة لهزيمتها. وحذرت مرشحة حزب الجمهوريين «فاليري بيكريس» من «الفوضى التي ستنجم إذا تم انتخابها رئيسًا». وصرح «ماكرون» بأنه «عندما يمثل اليمين المتطرف بجميع أشكاله جزءًا كبيرًا من أصوات بلدنا لا يمكننا أن نشعر أن الأمور تسير على ما يرام»، معلنا أن فوز لوبان سيجعل فرنسا تؤيد «الشعبويين وكراهية الأجانب». وبالنظر إلى هذه الانقسامات بين اليمين والوسط، فإن مؤيدي «جان ميلنشون» -مرشح اليسار الراديكالي- في الجولة الأولى من الممكن أن يحسموا نتائج هذه الانتخابات، رغم أنه من الممكن أيضًا أن يمتنع العديد من أنصاره عن التصويت في الجولة الثانية. وفي حين أنه حث بالفعل مؤيديه على «عدم إعطاء ولو صوت واحد للوبان»، فإنه لم يصرح بدعم ماكرون أيضًا. من ناحية أخرى، ناقش المراقبون التداعيات الجيوسياسية لانتخاب «لوبان»، وسط توافق عام على أن ذلك سيمثل تحديًا كبيرًا لمستقبل الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن احتمالات تقويضها ردود الفعل القوية حيال الغزو الروسي لأوكرانيا. ورغم أهمية إعادة انتخاب ماكرون، فإن قضية الانتخابات الرئاسية الفرنسية لم تتم مناقشتها كثيرًا في «بروكسل». وأوضح «ديف كيتنغ»، من «المجلس الأطلسي»، أن فوز «لوبان» يمثل «أزمة وجودية للاتحاد الأوروبي»، إذ سيكون مستقبل التكتل «موضع شك»، نظرًا إلى أنها تريد تفكيكه من الداخل، وتطالب بالعمل على مراجعة معاهداته. ومستشهدا أيضًا بعلاقتها مع روسيا، والدعم السابق لـ«بوتين»، افترض «كيتنغ» أنه إذا كانت باريس تحت قيادة «لوبان»، فإن «الانسحاب المحتمل من فرض عقوبات على روسيا» سيكون «ضربة قوية للغرب» ومحاولاته معاقبة موسكو. وفيما يتعلق بالأمن الأوروبي، أشار إلى أنها «دعت إلى الانسحاب من حلف الناتو». وأشار «كوهين» إلى أن فرنسا «المناهضة لحلف شمال الأطلسي»، و«الأكثر موالاة لروسيا»، ستسبب قلقًا عميقًا لدى الحلفاء»، وأن هذا قد «يؤدي إلى تشتيت ردود الفعل الموحدة عبر الأطلسي حيال الغزو»، مشيرا كذلك إلى «الأعباء التي تم إلقاؤها على الدور الفرنسي وقيادته أوروبيًا من قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتهاء ولاية «ميركل» كمستشارة لألمانيا، وبالتالي فإن نتائج هذه الانتخابات ستكون ذات تأثير كبير على الجغرافيا السياسية لأوروبا برمّتها. ومع ذلك، فإن سياسة «لوبان»، تجاه «الناتو»، ليست الوحيدة في السياسة الفرنسية. وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن المرشحين المناهضين للحلف من التيارين اليساري واليميني حققوا أكثر من نصف الأصوات في النتائج الأولية. وكتبت «هولي بانكروفت»، و«زوي تيدمان»، في صحيفة «الإندبندنت»، أن ماكرون «هو المرشح الرئاسي الوحيد الذي يدعم التحالف عبر الأطلسي بشكل كامل». ومع الجولة الثانية من الانتخابات المقرر إجراؤها في 24 أبريل 2022، لا يزال العديد من الخبراء يتوقعون أن يحقق «ماكرون» فوزًا، وإن كان أقل مما تحقق عام 2017، عندما فاز في الجولة الثانية بنسبة 66.9% من الأصوات، مقابل 33.1% لـ«لوبان». وعلق «لوك روبان»، من «معهد باريس للدراسات السياسية»، أن لوبان «لم تكن أبدًا قريبة من الفوز بالرئاسة». وكتب «باربيرو» أنها «يبدو فجأة وكأنها حصلت على فرصة فعلية للفوز، وهو بحد ذاته سيكون زلزالا سياسيا لفرنسا». وإدراكًا لهذه الإمكانات، توقع «كوهين» أن تكون النتيجة النهائية لعام 2022 لصالح لوبان». على العموم، هناك حالة عدم يقين لدى المراقبين عند التنبؤ بالنتيجة، وللتعبير عن ذلك، أشارت «بانكروفت وتيدمان»، في صحيفة «إندبندنت»، إلى تصويت 24 أبريل على أنه «اختيار بين رئيس حالي مؤيد للوسطية والتعاون الدولي»، أو «تفجير عقود من الاتفاقات الدولية بيد لوبان». وأوضحت شبكة «سي بي إس نيوز» أن هناك «حملة انتخابات جديدة»، بدأت الآن متأثرة «بالحرب في أوكرانيا»، وأن جولة الإعادة «من المرجح أن تكون أكثر تحديًا بكثير من الجولة الأولى». في حين حذر «أرو» أن فوز ماكرون «ليس مضمونًا على الإطلاق». ومع ذلك، ففي وسائل الإعلام الغربية وتعليقات الخبراء، لا يزال هناك تفضيل واضح لماكرون للاحتفاظ بالسلطة.
مشاركة :