ذكرى الحرب العالمية الثانية تطل في 'الوردة البيضاء والغابة السوداء'

  • 4/16/2022
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

تبدو الحرب العالمية الثانية وكأنها حدثت منذ زمن بعيد لمعظمنا، لكن الحجم الهائل للحدث وتعقداته، سوف يجعلها حية في الذاكرة الجماعية للبشرية لفترة طويلة جدًا قادمة، خاصة مع وجود نذر واحتمالات لقيام حرب عالمية ثالثة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.. لذا فإن أحداث الحرب العالمية الثانية لا تزال موضع استكشاف وقراة وتحليل وإبداع الكثير من الكتاب والفنانين وعدد كبير من الناس، وليس بدون سبب: لقد كانت كارثية في كل شيء، وبعدها تمت إعادة صياغة قواعد العالم بالكامل وكانت الظروف القصوى هي الوحيدة التي عاشها الناس. وهذه الرواية "الوردة البيضاء والغابة السوداء" للكاتب إوين دمبسي والصادرة عن دار العربي بترجمة محمد عثمان خليفة، رواية تاريخية خيالية تدور أحداثها خلال الحرب العالمية الثانية، وهي وإن ركزت بشكل أكبر على العنصر الإنساني، ووقفت خارج حدود صراعات الحرب إلا أنها تتبع تأثيراتها من خلال الشابة الألمانية فرانكا جربر التي نشأت في ثلاثينيات القرن الماضي كعضو متحمس في حركة شباب هتلر، وعملت بإحدى مستشفيات ميونيخ، لكنها الآن تعارض وتكره النظام النازي، ويرجع ذلك إلى تسببه في فقدها لعائلتها بمقتل والدها وشقيقها وحبيبها، تعيش وحيدة يائسة في المنزل الصيفي البعيد لوالديها، تعيش فيما أوجاع الماضي تلاحقها، وكذلك فظائع الحرب، لدرجة أنها تشعر أنه ليس لديها الكثير لتعيش من أجله. بنهايات 1943 تتجه فرانكا إلى جبال الغابة السوداء في ألمانيا ومعها مسدس والدها في جيبها، عاقدة العزم على الموت. وبينما تتساءل أين سيكون أفضل مكان للراحة الأخيرة تعثر في الثلج رجلا فاقدًا للوعي اسمه فيرنر غراف. لا توجد آثار أقدام في الثلج المؤدي إليه وهناك مظلة ملتصقة به. تعتقد أنه ربما يكون طيارًا في سلاح الجو الألماني من برلين، وهو جزء من جيش الحكومة النازية التي تكرهها، لكنها قررت مساعدته، لأنها تشعر أن عليها واجب العمل كممرضة. وبالفعل تحاول مساعدته حيث كانت كلتا ساقيه مكسورة، وتنقله إلى كوخ العائلة. يستيقظ فيرنر غراف ويشرح لفرانكا سبب سقوطه وفقدانه للوعي. ويكذب بشأن هويته لكنها تعرف أن "فيرنر غراف" ليس اسمه الحقيقي. يقول إنه لا يستطيع مناقشة مهمته خوفًا من وقوع المعلومات السرية في أيدي الحلفاء. تحدث الاثنان قليلاً، وكلاهما غير واثق في الآخر، عرضت فرانكا عليه إخبار مكتب الجستابو بوجوده هنا، لكنه يقول أن هذا ليس ضروريًا. تتجه "فرانكا" إلى البلدة للحصول على بعض المسكنات بينما تراود فيرنر كوابيس حول السقوط من السماء ومحاول الهروب من المقصورة. وأثناء تسوقها تلتقي صديقها القديم دانيال بيركل، الذي أصبح الآن جزءًا من الجستابو. ورغم أنها لا تريد شيئًا أكثر من الابتعاد عنه، إلا أنها تبقى وتتحدث لأن هذا هو الخيار الأكثر أمانًا. يهنئ دانيال فرانكا على تلقيها حكمًا مخففًا من القاضي بعد أن تعرضت للمحاكمة بسبب انضمامها لمجموعة مناهضة للنازية كان حبيبها هانز جزءًا منها. يحاول فيرنر التغلب على أكاذيبه، إنه قلق بشأن إكمال مهمته وإذا كان بإمكانه الوثوق بفرانكا، طلب رؤية صور عائلتها وبعد ذلك، تروي فرانكا قصتها له دون حذر فقد قررت ألا تهتم بأن يقوم بتسليمها أو قتلها. تروي عملها في مستشفى ميونيخ والفظائع التي شاهدتها، والاجتماع الذي حضرته مع هانز في عام 1941 حيث ناقشوا ما يجري في معسكرات الاعتقال وبدأوا في اتخاذ إجراء إطلاق منظمتهم "الوردة البيضاء" قاموا من خلالها بتوزيع المنشورات المناهضة للنازية لما يقرب من عامين. تحكي فرانكا فيرنر كيف انضمت إلى الفتيات الألمان وكيف كان والديها قلقين. أخبرته عن علاقتها بدانيال وكيف كانت شاهدة على ما فعله النازيون من جرائم. كما تخبره عن لقاء هانز والعمل مع منظمة الوردة البيضاء ضد النازيين في عام 1941. تخبره عن إعدام هانز ومحاكمتها وسجنها ستة أشهر لأن الجستابو لم يعتقد فتاة جميلة يمكنها أنتكون جزءًا من قيادةمنظمة. وفي المحاكمة أنكرت علاقتها بالجميع إنقاذا لنفسها. تواصل فرانكا لـ "فيرنر" الحكي بينما تسابق الزمن لكشف لغز هوية فيرنر الحقيقية. رباطهما الضعيف يصبح لا ينفصل بقدر ما هو خطير. مطاردان من قبل الجستابو، كيف يمكن لشخصين غريبين خلق ثقة متبادلة في وسط حرب وحشية؟ خاصة عندما يكون المرء ضعيفًا ويعتمد على الآخر، لكن سرعان ما تكتشف فرانكا أن هوية فيرنر أكثر مما تراه أو تظنه، ومع الوقت الذي يقضيانه معًا، تبدأ الرابطة بينهما في التكوين. يعترف فيرنر بأنه ليس ألمانيا واسمه "جون لينش" من فيلادلفيا، كان جنديا وأصبح عميلا سريا. فشلت مهمته عندما ضربت المدفعية الألمانية طائرته الخاصة، مما أجبره على القفز مما أدى إلى كسر ساقيه. جون يطلب من فرانكا مساعدته في تحقيق هدفه وهو عالم يدعى روبرت هان في شتوتجارت، تقوم أبحاثه على المساعدة في بناء قنبلة ذرية. وتقرر مساعدته، تذهب إلى البلدة وتحصل على عكازين يمكنه من خلالهما المشي، لكنها تثير شكوك عناصر الجستابو عن طريق الخطأ. يتقارب "فرانكا" و"جون" في سبيل الوصول للعالم الذي تلتقيه فرانكا منفردة وتحصل منه على أبحاثه، لكن سرعان ما يقتل في غارة جوية، تحمل فرانكا الأبحاث إلى جون في المختبئ تحت الألواح الخشبية للشقة التي استأجراها، لكن عناصر الجستابو تصل إليهما بقيادة صديقها دانيال الذي يحاول الاعتداء جنسيا عليها، لكن جون يندفع من مخبئه، ويتمكن من إطلاق النار عليه وقتله. تقرر فرانكا وجون التوجه إلى منزل عمها هيرمان، الذي يقع بالقرب من الحدود السويسرية، بعد إخفاء جسد دانيال تحت ألواح أرضية الشقة، يتسللان إلى داخل بيت العم بمفتاح احتياطي، وفي الصباح تصحب فرانكا عمها في نزهة بينما يختبئ جون في غرفة نوم. يعثر وكيل الجستابو الآخر أرمين فوجل على جثة دانيال ويتعقب فرانكا وجون ويبلغه جار العم عن شكوكه في وصول امرأة. يطلق فوغل النار على العم هيرمان ويلحق بجون وفرانكا، يهرب جون بعد أن طلبت منه فرانكا إنقاذ نفسه. يتم القبض عليها وفي طريق ترحيلها، يعود جون مرتديا زي اللوفتفافه ويتظاهر أنه طيار تقطعت به السبل، يوقف السيارة ويتبادل الضحك مع الحراس الأربعة ثم يباغتهم ويقتلهم جميعًا مع قائدهم فوجل، لكنه يصاب فتحمله فرانكا عبر الحدود إلى سويسرا. وفي لمحة سريعة نرى سويسرا في عام 1945، حيث يعلم القارئ أن فرانكا بخير ومستعدة للعودة إلى ألمانيا بعد أن انتهت الحرب للتو. وأن جون نجح في تحقيق مهمته بحصوله على أبحاث ووثائق العالم الألماني ونجاته بأعجوبة من الموت. مقتطف من الرواية هذا أنسب مكان للموت. ذات يوم، كانت تعرف كل حقل وكل شجرة في هذا المكان، كانت تعرف كل وادٍ. قديمًا.. كان لكل حجر هنا اسم، وكان العشاق يصفون أعشاش اللقاء فيه بمسميات غامضة تستعصي على عقول الكبار. قديمًا.. كانت مياه الجداول الجبلية تتدفق في سخاء، مثل الصلب الناعم تحت شمس الصيف. قديمًا.. كانت تلوذ آمنة بهذا المكان. أما اليوم، فهي تجده بقعة أصابها السم فخربت، واختنق فيها كل نقاء وجمال. يجثم غطاء الثلج كثيفًا في كل مكان من حولها، ويمتد بلا هوادة في الاتجاهات الأربعة. أغمضت عينيها، تتلمس السكينة ولو لثوانٍ، تستحضر في مخيلتها عواء الريح، حفيف أغصان ثلجية، دفقات أنفاسها، ونبضات قلبها. تلوح في الأفق سماء الليل، واصلت المسير، تلاحقها أصوات خطواتها التي تطحن ندف الثلج أسفلها.. ترى أين هو أنسب مكان للانتحار؟ من سيجد جثتها؟ تخيلت بعض الأطفال وهم يلهون في الثلج فيصادفون جثتها.. لا، هذا خيال أصعب من أن يتحمله بشر، ربما يكون من الأفضل لها أن تعود أدراجها، لتصبر ليوم آخر على الأقل. تشكلت دمعة في إحدى عينيها، وسالت على بشرة خدرها البرد. واصلت المسير. يزداد انهمار الثلوج كثافةً بينما تثبت الوشاح الذي يغطي وجهها. ربما يتحلل جسدها سريعًا في الأرض. بالفعل، هذه هي النهاية التي تليق بها. إنها العودة الأبدية إلى الطبيعة التي شغفت بها حبًّا، ولكن لماذا تستمر في المشي من الأساس؟ ما الذي تستفيده من المضي وسط الثلج لأبعد وأبعد؟ لقد حان الوقت بكل تأكيد لإنهاء هذا العذاب.. وهكذا دست يدها في جيبها وشعرت من خلال قفازها بنعومة المعدن الأملس لمسدس أبيها القديم. لا، ليس بعد. استمرت تمضي أمامها، لن ترى الكوخ مرة أخرى، أو أي شيء أو أي شخص، لن تعرف أبدًا مآل الحرب، ولن تشهد سقوط النازي أو مثول ذلك المجنون أمام عدالة محكمة وحسابه على جرائمه. تذكرت "هانز".. وسامة وجهه، الصدق في عينيه، وذلك القدر المستحيل من الشجاعة في قلبه. لم تسنح لها الفرصة كي تحتضنه لمرة أخيرة، وأن تخبره أنه من جعلها تؤمن بأن الحب لا يزال موجودًا في عالم فقد عقله.. لقد قطعوا رقبته، وألقوا بها إلى جوار جثته، قبل أن يتركوه إلى جوار أخته وأعز أصدقائه. لم يتوقف تساقط الثلوج، ولم تتوقف هي. أشجار الغابة على يسارها وهي تصعد تلًّا، تكيفت عيناها مع الظلام، ولفت انتباهها شيء ما أمامها، متكوم في الثلج على بعد حوالي مائتي ياردة منها.. جسد جاثم مثل حفنة من الخرق البالية في كل هذا البياض البكر، لا توجد آثار أقدام تؤدي إليه. لم يكن يتحرك، لكن المظلة الجوية التي ما زالت معلقة في جسده تلاعبها الريح، وتلامس الثلوج بين حين وآخر مثل حيوان عطشان يدور حول المياه. نأت بناظريها عنه بشكل غريزي، رغم أنها لم ترَ روحًا حية منذ أيام. تقدمت نحوه بحذر وكلها توجس وريبة، فهي من اعتادت أن ترى في كل ظل وكل هبة ريح تهديدًا مميتًا. لكنها لم تجد حوله شيئًا، ولم تجد حوله أحدًا. يتراكم الثلج فوق جسده الساكن، فلا تلمح الكثير منه أسفل هذا الغلاف الأبيض؛ عيناه مغمضتان. مسحت الثلج عن وجهه، وتحسست نبضه، شعرت بنبض قلبه في عروق رقبته. تخرج من بين شفتيه أنفاس بيضاء واهنة، ولكنه لم يفتح عينيه. تراجعت عنه خطوات، وهي تتلفت حولها بحثًا عن نجدة، ولكنها تدرك أنها وحدها. أقرب منزل هو منزلها، ذلك الكوخ الذي تركه لها والدها، وهي الآن على بعد يتجاوز الميلين.. أما أقرب قرية فهي على مسافة تتجاوز الخمسة أميال، وهي مسافة يستحيل عليها قطعها في هذه الظروف، حتى لو كان هذا الرجل في وعيه. أزالت الثلج عن صدره، فعرفت من زيه أنه نقيب في سلاح الطيران الألماني.. "اللوفتفافه". بالطبع، كان أحدهم؛ أحد هؤلاء الوحوش التي دمرت هذا البلد وحرمتها هي من كل مَن أحبته. هل سيعرف أحد لو تركته ليموت؟ يجب أن تتركه لحاله. سرعان ما سيموت كلاهما، ولن يعرف أحد؛ مجرد جثتين أخريين وسط الثلوج. ابتعدت بضع خطوات، ولكنها توقفت عن الحركة. وقبل أن تدرك أنها اتخذت القرار، انحنت عليه مرة أخرى. ربتت على خده وهي تحاول إيقاظه. حاولت فتح عينيه، ولكنها لم تجد أي رد فعل سوى أنه واهن. يستند جذعه إلى حقيبة ظهره، بينما يتدلى رأسه إلى الوراء، وتنفرد ذراعاه على جانبيه. طويل بشكل لافت، لا بد أن وزنه ضعف وزنها. اعتراها القلق وهي تفكر في استحالة أن تحمله عائدة إلى الكوخ.. هذا محال! وبرغم ذلك حاولت أن تحمله، ولكنها لم تنجح سوى في رفعه بضعة سنتيمترات قبل أن تخونها ساقاها وتزل قدماها، ليسقط منها نحو الثلج مرة أخرى. لا شك في أن حقيبة ظهره تزن خمسين رطلًا على الأقل والمظلة الجوية عشرة أرطال أخرى. يمكن أن تبقى المظلة كما هي في الوقت الحالي، ولكن عليها أن تخلصه من حقيبة الظهر. وبعد بضع ثوانٍ من التجربة والخطأ، نجحت في فك أربطة حقيبته وسحبتها من تحته. فسقط جسده مرة أخرى على الثلج في ارتطام خفيف مكتوم. نحت الحقيبة جانبًا ونظرت إلى السماء، يزداد الثلج المتساقط غزارة. ليس أمامهما وقت طويل. تفحصت نبضه مرة أخرى، لا يزال قويًّا، ولكن إلى متى؟ قادها حدسها إلى أن تدس يدها في جيب سترته. أخرجت أوراق هويته، اسمه "فيرنر غراف"، من برلين. وفي محفظته صورة لامرأة افترضت أنها زوجته، وهي تقف مع ابنتين باسمتين.. في الثالثة والخامسة من عمرهما. في حين كان يبلغ هو 29 عامًا.. أي أكبر منها بثلاث سنوات. خرجت أنفاسها عميقة وهي تقف لتحدق في "فيرنر غراف". لقد تدربت وعملت لمساعدة الآخرين.. تلك هي مهنتها، وهذا ما ينبغي أن تعود للقيام به، ولو لبضع ساعات فقط. أعادت الأوراق إلى جيبه قبل أن تتحرك خلفه مرة أخرى. وضعت ذراعيها تحت إبطيه وجذبت بكل ما فيها من قوة.. تحرك الجزء العلوي من جسده، لكن ساقيه عالقتان في الثلج. وأطلق صرخة ألم عالية وهي تحرر ساقيه من أسر الثلوج. عيناه لا تزالان مغمضتين. وضعته أرضًا وتحركت لتفحص ساقيه، كان سرواله ممزقًا، جفلت عندما شعرت بعظام مكسورة تضغط على جلده، كلتا الساقان مكسورتان من تحت الركبة.. ربما كان الكسر في عظمة الشظية المجاورة لقصبة الساق، ولكن التأثير الأكبر بالتأكيد في القصبة. سوف تتعافيان في الوقت المناسب إن هي جبرتهما بشكل صحيح، ولكن المشي مستحيل في الوقت الحالي. ربما كان من الأفضل له أن تتركه يموت في هدوء خلال نومه هنا وسط الثلوج. فتحت حقيبته، لتجد بعض الملابس والمزيد من الأوراق. وضعت كل هذا جانبًا، قبل أن تجد في قاع الحقيبة علب ثقاب وطعامًا وماءً وبساط نوم ومسدسين. تعجبت من أن يحمل طيار حربي أشياء من هذا القبيل.. ومسدسان؟ ربما كان سيسقط خلف خطوط العدو في إيطاليا، ولكنها تبعد مئات الأميال من هنا. ليس هناك الكثير من الوقت، وتضييعها الوقت في أسئلة افتراضية ربما يكلف "فيرنر غراف" حياته. فكرت في زوجته وابنتيه، الأبرياء من الجرائم التي قد يكون ارتكبها باسم "الرايخ". لم يكن معها أي شيء سوى مسدس أبيها، الشيء الوحيد الذي ظنت أنها لن تكون بحاجة لغيره هذه الليلة.

مشاركة :