'بقايا يوم صيفي' رواية الوحدة والندم وإرث الحرب العالمية الثانية

  • 2/23/2022
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

صورة رائعة وبنعمة خادعة وبساطة خادعة، تذكرنا الروائية الإيراندية كريستين دوير هيكي بأن الماضي ليس بعيدًا أبدًا، بل إنه يحيط بنا باستمرار، يعلقنا، يطاردنا. أواخر موسم صيف 1950 على الشاطئ البعيد في "كيب كود" بولاية "ماساتشوستس". يرسل الزوجين هاري وأنيتا ابنهما بالتبني مايكل الصبي الذي يبلغ من العمر عشر سنوات، والذي مات والديه الحقيقين في الحرب العالمية الثانية ويعد من أيتام الحرب،إلى عائلة السيدة كابلان ليقضي الصيف مع ريتشي ووالدته الفاتنة والمضطربة أيضا أوليفيا ووجدته السيدة كابلان وعمته كاثرين. ريتشي مات والده أيضا في الحرب، لكنه لم يتقبل بعد فكرة الحياة من دونه، ولا يتقبل أيضا الفتى "مايكل" هذا الغريب الأطوار الذي جاء دخيلًا على حياته. مايكل تم إحضاره إلى أميركا في إطار مبادرة الرئيس ترومان لإنقاذ الأيتام الألمان ووضعهم مع آبائهم بالتبني في أميركا. لديه القليل من الذكريات عن سنواته الأولى، مجرد تذكر ضبابي للغاية عندما كان في الثالثة من عمره، وعن الجوع والوحدة والاختباء بين أكياس الرمل. على الرغم من أن والديه بالتبني، هاري وأنيتا، لطفاء معه، فقد كافح من أجل التكيف مع حياته الجديدة، وتعلم اللغة الإنكليزية و"نسيان" كل كلماته الألمانية. ومع أنه يشعر بالاستياء قليلاً من هذا ولا يزال يجد صعوبة في الشعور بالأمان. يتفاقم قلقه بشأن القبول والانتماء عندما يرسله والديه بالتبني، اللذان يتوقعان الآن طفلاً وهما بصدد الانتقال إلى منزل جديد، للإقامة مع السيدة كابلان، جدة ريتشي، وعائلتها لقضاء عطلة صيفية ممتدة، لا يسعه إلا أن يتساءل عما إذا كانوا يريدون عودته. أما ريتشي فمنذ وفاة والده فهو يعاني من مشاكل عاطفية. إنه لا يزال في حالة حداد على فقدان والده، وهو مستاء ليس فقط من وجود مايكل، ولكن من حقيقة أن والدته قد بدأت الآن علاقة جديدة ربما تنتهي بزواجها. يجد الصبيان صعوبة في تكوين أي نوع من الروابط مع بعضهما البعض، لكن كل منهما يجد الراحة في الصداقات التي تتطور بينهما وبين الفنانين هوبر وجوزفين. يلتقي مايكل وريتشي بزوجين يعيشان في مكان قريب؛ هما الفنانان الأميركيان إدوارد هوبر وزوجته جوزفين التي تغار منه وعليه، ودائمًا ما تعيش داخل قوقعتها التي ملأتها باليأس من عدم قدرتها على التأقلم معه والإنجاب منه، تعاني من نوبات من الهوس بالغيرة الجنسية. أما إدوارد فمنعزل ومريض ومكتئب بسبب عدم قدرته على العمل، حيث لم يرسم شيئًا مثيرًا للاهتمام لبعض الوقت ويفتقر إلى الإلهام. عندما يلتقيان الصبيان مايكل وريتشي يصبح محاطًابهما وبعمّة الأخير "ريتشي" الضعيفة والجميلة كاثرين التي تحتضر بسبب مرض لم يذكر اسمه. تقضي وقتها في الراحة والتدخين والتجول بلا هوادة.. يتشارك كل من هوبر ومايكل بالافتتان بها. رواية الوحدة والندم وإرث الحرب العالمية الثانية ومفهوم الحلم الأمريكي المتغير باستمرار. إننا نجد صعوبة في استيعاب السلوك الأناني والذاتي والمتطرف في كثير من الأحيان للصبيين، فتصرفات كليهما تجعل من الصعب الشعور بالدفء تجاه أي منهما؛ أو تصديق أن أيًا منهما لديه أي وعي أو تعاطف مع النطاق المعقد نتيجة تضارب المشاعر التي كانت تقود الصبيان الصغيران في علاقتهما مع من حولهما. فـ "مايكل" مسكون بالذكريات التي لا يستطيع فهمها. وريتشي غارقة في خسارته وتزايد إدمان الكحول لأمه الفاتنة أوليفيا ومحاولتها إيجاد زوج. يعتبر الفنان الواقعي هوبر الشخصية المحورية في الرواية التي ترجمتها هند عادل وصدرت عن دار العربي. قصة زواجه المضطرب وضياعه نتيجة تشوش خياله وفقدانه للإلهام. إن كل شيء في الرواية متوازن بعناية الفكر والعمل، والشعور والحركة، والدراما والتشويق. حيث أن الروائية تترك مساحة لشخصياتها تتيح لها حرية التصرف بشكل غير متوقع وشغل عقل القارئ ببنية وتركيبة هذه الشخصيات. تعالج الرواية علاقة هوبر بجوزفين بحقيقتين أساسيتين: زواج طويل ومضطرب دون إنجاب وكفاح وغيرة من أجل الإبداع. حيث تتكشف أنانية وذاتية الفنان، والتي تتمثل في نوع من القسوة نراها عادة في الفنان. تُظهر الروائية فهمًا عميقًا للضعف البشري والشوق والندم وتستخدم مجموعة كاملة من الأدوات المتاحة لها للتعبير عن الحياة الداخلية لشخصياتها. وذلك عبر كتابة مباشرة ومخادعة تستكشف الموضوعات الرئيسية للعلاقات والزواج والطفولة وصدمة الإحساس الجنسي الأولية ودور المخيلة فيها. إنها تستخدم الجسد للتعبير عن الكثير وفي اللحظة المناسبة تمامًا - وفي أوقات أخرى تدرك أن ما هو مطلوب هو شعور خالص بلا خجل ولا تخشى الذهاب إلى هناك أيضًا. عندما تكون كتابتها في أقوى حالاتها، فإنها تجمع بين ردود الفعل الجسدية والعاطفية. بعد عودة جو ومايكل من المشي، أخذ مايكل غفوة. بينما تراقب الطفل وهو ينام "يأتي الإحساس عليها من جديد، تحت عظام الصدر، بين ضلوعها. شعور هو ثانية واحدة من الفرح، وثانيتان من الحزن. وهي تعرف إذن: ما أزيل هو الوحدة وما أضيف هو الحب". إن أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية في أميركا تأثيراتها على الناس ومحاولاتهم ومحاولتهم التمسك بأحلامهم والتأقلم فيظل استمرار حالة صراع والاضطرابات، هو ما جعل الرواية واضطربات شخصياتها مقنعة. حيث نرى لتجليات قسوة ألم الخسارة، والأضرار الخبيثة التي تسببها العلاقات المختلة، والأحلام التي لم تتحقق، والوحدة واليأس، وقد تغلغلت في العديد من جوانب حياة كل الشخصيات. ومع ذلك، لم يصبح اليأس كاملاً أبدًا لأنه كانت هناك أمثلة كافية على اللطف والأعمال غير الأنانية التي تمكن من الشعور بوجود بعض الأمل في المستقبل. يذكر أن كريستين دوير هيكي راوية وكاتبة قصص قصيرة، حاصلة على عدد من الجوائز الأدبية. كانت أكثر رواياتها مبيعًا هي "تاتي" – أصدرتها العربي للنشر والتوزيع عام 2016 – واُختيرت واحدة من أفضل 50 كتاب أيرلندي في العشر سنوات الأخيرة، واُختيرت كذلك للقائمة الطويلة لجائزة "أورانج"، والقائمة القصيرة لجائزة العام "هيو & هيو" للرواية الأيرلندية. ورُشحت روايتها "الراقصة" لهذه الجائزة أيضًا. أمَّا روايتها "القطار الأخير من ليغوريا"، رُشحت لجائزة "الأدب الأوروبي"، كما فازت روايتها "عين النعيم الباردة" بجائزة العام للرواية الأيرلندية عام 2012، ورُشحت لجائزة "أيمباك" عام 2013. مقتطف من الرواية يزداد الوضع صعوبة كل عام وتقل قيمته، وكأنه يحمل حقيبة مليئة بالصخور ويصعد بها تلا، وفي كل مرة يزداد عددها. يقود في طرق مألوفة ويمر بكل القرى الصغيرة بسيطة التصميم، ويتبع الطرقات الصغيرة التي تربطها. يرى التلال المقفرة والمزروعة تظهر وتختفي في مرآة الرؤية الخلفية، تلوح له الأعشاب الصفراء الطويلة مودعة، يلمح ذيل قطة سوداء يتراقص حول بحيرة صغيرة، يقود في تلال ووديان، وعلى ساحل المحيط والخليج. يقف خلف السياح ويحاول رؤية هذه الأماكن بعيونهم، يقف وحده يراقب حلول المساء على ميناء "باميت". لم يعد يرى شيئا جديدا، ولم يعد يشعر باختلاف أيضا.. ما عدا شعور بالضياع يشعر. لقد مر بمناظر رأها كثيرا من قبل حتى استوعبها وهضمها، مناظر كانت في السابق تجعل قلبه ينبض ويديه تتعرقان حتى تنزلق الفرشاة من يده، أصبح يقود في أماكن لم تعد تعني له شيئا، أصبح مثل المدير الصارم الذي يمر حول موظفيه دون أن يبالي بالنظر إليهم. أحيانا يتردد بالطبع، تأتيه لحظات من الأمل وهو يدخل إلى بلدة أو يسير في شارع جانبي أو ينظر مرة أخرى إلى محل بقالة في حال فاته شيء في المرة السابقة أو التي قبلها، لابد من وجود شيء ما يثير إلهامه. يتوقف ويخرج من السيارة ويسير قليلا، وأحيانا كثيرا، يتأمل واجهة محل أو كشك أو بلكون بيت، ويتخيل رسمها بالظل والنور، يعبر الشارع وهو يراقب موضع كل ظل عليه. عند الغروب يصاب بالملل فيختار أي مشهد، يلمح قمة حظيرة أو سطح بيت بين الأشجار، فيدخل في طرق طينية قديمة ليصل إليها. تكافح إطارات سيارته للسير في الطرق غير الممهدة، وأفرع الشجيرات تخدش جانبي السيارة، يواسي نفسه بالظن أنه وجد إلهامه على الأقل.. ها هو بالتأكيد، ثم فجأة.. لا يجد شيئا!. يحل الليل فيقود، في الطريق الرملي الوعر الذي يؤدي إلى بيته، على ضوء السيارة يرى حشرات الليل وهي ترقص باحتقار، ثم يلمح البيت وهو ينظر إليه شذرا من فوق التل، ويظهر من النافذة على نور المصباح رأس زوجته الصغير بوجهها القلق. يركن السيارة بكل روية وبطء ويغلق باب الجراج ثم يصعد السلم الصغير ليصل إلى بيته، عندها يعود الصياد بيدين خاليتين وعقل فارغ. عندما تكون زوجته معه، تشير إلى أشياء وتسأله: ـ ألا يجعل ذلك قلبك ينبض؟ ـ ليس حقا. ـ ستعلق اللوحة على جدار وستحمل توقيعك، ستكون شيئا صنعته بنفسك ولا أحد غيرك يمكنه تكراره، كيف لا يجعل ذلك قلبك ينبض؟ ـ أظنني أرى الأمور بمنظور مختلف عنك. ـ ألا تحب ما تصنعه؟ ربما من الأفضل أننا لم ننجب أولادا.. أعني، مادمت لا تحب ما تصنع، فقد لا تحب ذلك أيضا. ، ذلك؟ ماذا تقصدين بـ "ذلك" بالضبط؟ ـ أعني هذه الحظيرة وهذه المزرعة وهذا البيت، كلها أشياء أصبحت خالدة في رسوماتك. ـ في هذه الحالة، إجابتي هي، لا، لا أحبها. لم يخبرها أنه يحب المنظر حين يراه لأول مرة، وحين يحمل الفكرة في عقله وينتظر بصمت حتى تتكون على القماش، وحين ينظر إلى الرسومات الأولية ويشعر بالرغبة في إتمام اللوحة، وحين تكون اللوحة حبيسة خياله وتخرج تدريجيا.. يحب كل هذا، يحبه أكثر من أي حب شعر به نحوها أو نحو أي امرأة. تحب أن تأتي معه حين يخرج بحثا عن إلهام، مادام لن يغيب، تسمي ذلك "مرحلة الإدراك" إنها تحب أيضا التحدث وهي معه في السيارة، تسأله أسئلة وتحب أن يجيب، تنظر إليه بنفاذ صبر حتى يرد بأي إجابة، معظم الوقت يجبر نفسه على مجاراتها. ـ أظنني أحب الفكرة نفسها، حين تبرز في عقلي وتتكون، لكن عندها... ـ لكن ماذا؟ ماذا يحدث عندها؟ أخبرني... ماذا؟ ـ بمجرد أن... أمم... أن تظهر تدريجيا على القماش.. تصبح أقل من توقعاتي، وكلما تقدمت في رسمها، شعرت بأنني أدمرها، وبمجرد انتهائي منها لا يبقى في قلبي إلا خراب. ـ خراب! ـ خراب الفكرة عندها تتململ في الكرسي وتتحرك ضفيرتيها وهي تقول: ـ هذا سخيف! لم أسمع بشيء مماثل من قبل، لن أسمح لك بقول هذا الكلام، لن أسمح به. لكن حين تفعل ذلك، يتذكر كم يحبها!.

مشاركة :