حين بدأ يُدرك العالم من حوله، تفتحت عيناه على صورة والده، وهو برداء السجن، مقيداً بالكلبشات في أحد المعتقلات لنضاله من أجل الحرية، انحفرت الصورة في أعماقه، وظلت تُفجر بداخله الكثير من التساؤلات حول العدل، الظلم، الحرية منذ ذلك الوقت البعيد، يمضي القاص أحمد الخميسي محملاً بتلك الأسئلة الوجودية، باحثاً عن الحقيقة وسط الغيوم. بمحبة كبيرة، تشبه حياته الزاخرة، يفتح الخميسي خلال زيارتنا الثقافية له، خزائن ذكرياته مع والده الشاعر والفنان الكبير عبد الرحمن الخميسي، فتتدفق الحكايات والصور: غاب والدي عن طفولتي من عام 1953 حتى 1956حين تم اعتقاله، وهي الفترة التي كنت أقطع فيها سنواتي الأولى بادئاً إدراك العالم من حولي، وفي بعض الأحيان يمسي الغياب بقوة الحضور، فقد تأثرت في طفولتي ليس بحضور والدي بل بغيابه! ذلك أنه أثار في نفسي أسئلة حتى لو كانت ساذجة لكنها كانت تحوم حول قضية العدل والظلم، مرة واحدة زرته مع والدتي في المعتقل، ولم أكن قد تجاوزت الثامنة، أذكر أنني مضيت مع أمي في رحلة شاقة إلى المعتقل، متهيباً طوال الطريق سعادتي التي أترقبها عند رؤيته، جلسنا أنا وأمي على دكة خشبية في حجرة المأمور ننتظر، ثم ظهر والدي فجأة عند فتحة باب الحجرة ومعصم يده مقيد إلى معصم يد حارس عجوز، وما أن رآنا والدي حتى ضحك بقوة ناظراً إليّ وأومأ برأسه يشير إلى الحارس قائلًا لي: انظر! لقد قمت بسجن هذا الرجل لأنه شقي، ثم أزاحني قليلاً من على طرف الدكة وجلس بجواري يحيطني بحنانه ويحاول أن يبدد قلقي عليه بأن يبث في نفسي الشعور بأنه حر، وقوي، أخذ يحدق بي مبتسماً يستوثق إن كانت حكايته قد انطلت عليّ أم لا؟، حينذاك أسعفتني طفولتي على قلة سنواتها بابتسامة أوحي له بها أنني صدقت أنه حر طليق وأن الحارس العجوز في ردائه الرسمي محبوس، تبادلنا ابتسامتين مشبعتين بالحب والخداع الحاني، وبرزت في رأسي لأول مرة في حياتي فكرة قصة لم أكتب منها حتى الآن سوى اسمها ابتسامتان، فيما بعد عندما عاش معنا ترك في أثراً هائلاً، بشخصيته الفريدة التي رسم صورتها محمود السعدني قائلاً عنه: كان نموذجاً للفنان الذي رسمته في خيالي: شديد الزهو، شديد البساطة، عظيم الكرم، دائم الفلس، يمشي دائماً في الطريق يتبعه أكثر من شخص يلازمونه كظله. لقد رأيت فيه فناناً عاصفاً يوزع الأمل والتفاؤل من فوق بركان من القلق، أذكر أنني كنت بصحبته أول يوم رأينا فيه سعاد حسني في بيت والدتها، وكانت صغيرة لا تتجاوز ال17 حين دخلت علينا وقدمت الشاي وجلست بأدب ولم تنطق بحرف، فتأملها والدي طويلاً ثم قال لوالدتها: هذه البنت نجمة، فلما خرجنا سألته: أكنت تقصد ما قلته فعلاً؟، فأقسم بحرارة: والله يا ابني هذه البنت نجمة، ونجمة كبيرة وقد كان. حياتي معه طويلة حافلة بالذكريات التي تشكل في وجداني دفتراً مشعاً من الأمل والحب. دخلالخميسي عالم الكتابة في مرحلة مبكرة من حياته، إذ نشر أول قصة له في مجلة صباح الخير بعنوانرجل صغيرولم يكن يتجاوز الرابعة عشرة، ثم في مجلة القصة التي كان يشرف عليها ثروت أباظة في إبريل/نيسان 1965، ثم مجلة الكاتب في عام 67 وفيها قدم يوسف إدريس إلى القراء قصته استرجاع الأحلام. وعن بدايات الكتابة يقول: أعتقد أن الاستعداد للكتابة أو الفن عامة يعود بدرجة كبيرة إلى جزء من الجينات وتفاعل ذلك التأهب الفطري مع الحياة، الآن لا يسعني القول إن كنت شققت طريقي للكتابة مستلهماً - من دون وعي - نموذج الوالد الكاتب أم أنني كنت سأقدم على الكتابة في كل الأحوال، الأرجح أن التأهب الفطري هو الغالب والأقوى، وبالطبع فقد تأثرت بشخصيته إذ علمني بسلوكه ألا أعبأ كثيراً بما قد يحدث لي من الناحية المادية وأن أحرص على حريتي قبل كل شيء. في زمن استهلاكي وصفه البعض بأنه زمن الرواية، أخلص صاحب قطعة ليل للقصة القصيرة وظل قابضاً على عشقها لأنه كما يقول لا يملك سوى الكتابة بتلك الطريقة، ويوضح: نعم أنا لم أكتب سوى القصة القصيرة، وإذا كنت قد أخلصت لها فإن ذلك يشبه إخلاص الأعمى للقراءة بطريقة بريل، ليس أمامي سوى الكتابة بتلك الطريقة، في شبابي كنت مدهوشاً أسأل نفسي كثيراً: لماذا لا يكتب يوسف إدريس الرواية وهو موهوب وقادر؟ حين التقيت به فيما بعد وقدمني للقراء في مجلة الكاتب سألته: لماذا لا تكتب الرواية؟ قال: هناك سباح بطل مئة متر، وسباح بطل ألف متر، كلاهما بطل، الفارق فقط في النفس، وأنا نفسي قصير، القصة القصيرة نفس قصير، أما عن مقولة إننا في زمن الرواية فأظن أنها كلام مرسل لا يستند إلى شيء، لأننا مغرمون بإطلاق أقوال تبدو محكمة فإذا تمعنت فيها وجدتها مجرد ورق مقوى، ربما أكتب قريباً نصاً روائياً، لكنه سيكون قصيراً مثل روايات يوسف إدريس القصيرة الحرام والعيب. في الفترة من 1968 حتى 1971 اعتقل القاص الخميسي إثر مشاركته في المظاهرات الطلابية التي قامت تأييداً لمظاهرات عمال حلوان، وهو يستعيد تلك اللحظة التي وضع فيها داخل معتقل القناطر ويحكي قائلاً: الحياة داخل المعتقل حالة غريبة، وتجربة نادرة كأنك تقول بالضبط: الحياة داخل الموت في معتقل القناطر كان معنا الشيخ إمام، وأحمد نجم وآخرون، وكنت أرى أحياناً كيف يتحطم الناس داخل الوحدة، من وطأة الصمت والشعور بالعزلة، خاصة أولئك الذين ألقت بهم المصادفة إلى السجن، في السجن ليس أمامك سوى خيار واحد: أن تذرع أرض الزنزانة ذهاباً وإياباً لتشعر بأنك حي، أي أن تدوس حياتك ذهاباً وإياباً وتحيلها بنفسك إلى تراب، لقد اخترعوا لتعذيب الإنسان ما يسمى محاكاة الغرق أما السجن فهو محاكاة الموت مع ذلك لم يكن الأمر يخلو من ضحكة هنا أو بسمة هناك، أذكر ذات يوم جاؤوا إلى المعتقل بلواء متهم بقلب نظام الحكم، وكان رجلًا ضعيفاً مذهولًا راح يكرر لنا أقلب نظام حكم إزاي؟ أنا ما أقدرش أقلب قطة، وكان صادقاً، فلا تكوينه الجثماني ولا العقلي كان قادراً على قلب منضدة. في أغسطس/آب من عام 1972، كانت رحلة الخميسي إلى روسيا، تلك الرحلة التي تعد من أهم محطات حياته، هناك ربطته علاقة صداقة قوية مع الشاعر الروسي الكبير رسول حمزاتوف، وغيره من الروائيين والمثقفين الذين تشبع بفنهم وكتاباتهم حتى أنه عكف سنوات طوال على ترجمتهم إلى الثقافة العربية. يسرد لنا صاحب رأس الديك الأحمر تفاصيل رحلته: ركبت الباخرة من الإسكندرية إلى لبنان، عبأت حقيبتين بملابسي وكتبي ودفاتر بأفكار قصصية وإبرة وفتلة ونعناع وكيس ملوخية ناشفة وأزرار وأقلام وصور أخواتي، وأرقام هواتف أصدقائي، وكل ما يجرجره مصري إذا خطا شبراً واحداً بعيداً عن وطنه، حقيبتان منتفختان كأنهما حفلة وداع تتحرك معي حشرت فيهما مصر، استندت بمرفقي على سور الباخرة أودع الإسكندرية وأهلي الواقفين على رصيف الميناء ببصر غائم، بالنسبة إلي كانت مدة دراستي في روسيا نوعاً من التفاعل مع شعب مميز، بالنسبة إلى الشاعر الكبير رسول حمزاتوف فقد ربطتني به علاقة محبة وتقدير حين كنت في موسكو، وما زلت أحفظ له الكثير من شعره وخاصة قصيدته: في العالم نجوم كثيرة وقمر واحد.. نساء كثيرات وأم واحدة.. بلاد كثيرة ووطن واحد، أما عن أنطون تشيخوف فقد ربطتني به منذ الصبا تقريباً علاقة محبة وإعجاب لا ينتهي على المستوى الفني والإنساني منذ أن قرأت له عبارته في الإنسان ينبغي أن يكون كل شيء جميلاً: وجهه وروحه، أفكاره وملابسه. أما عن مدة وجودي في روسيا فلم يبق منها سوى إعجابي بالشعب الروسي، إنه الشعب الأوروبي الوحيد الشرقي، فقد تشكلت الشخصية القومية الروسية تحت تأثير الشرق والغرب معاً، منذ أن دخل الإسلام إلى مناطقها الجنوبية في القرن السابع الميلادي، ثم كتب أمير شعرائها بوشكينكتابه قبسات من وحي القرآن وكتب يقول: إن العرب هم الذين ألهموا ملاحم العصور الوسطى كل الرقة والنشوة الروحية والحب هي قصة تفاعل لم ينقطع يوماً. ثمة شجن ينبعث من نصوصه؛ مصدره الفقد، وأزمة الإنسان التي يستشعرها كل كاتب حقيقي، فالشجن بالنسبة إلى الخميسي المادة الأساسية للوجود هنا يقول: أظن أنه ما من عمل أدبي من دون شجن، حتى في المعمار الروائي المحكم العقلاني في ثلاثية نجيب محفوظ، سيلمس القارئ ذلك الشجن في قصة عايدة وكمال، الشجن مادة الوجود الأساسية، فهو ابن الزمن الذي لا يستعاد، والموت، والمصادفات التي لا تعرف المنطق، وسوء الفهم المتبادل، ومشقة إدراك النفس، وفقدان الأحبة، قال طه حسين ذات مرة: إننا لا نحيا لنكون سعداء أي أننا نحيا لنقوم بواجبنا تجاه الحياة أما السعادة فشأن آخر. يبدو صاحب أوراق روسية زاهداً في الجوائز والمناصب وغيرها من الأمور التي حلت محل القضايا الثقافية الحقيقية، فالكتابة بالنسبة إليه رسالة يسعى من خلالها إلى التواصل مع أرواح البشر: بصراحة أنا لا أفهم علاقة المناصب والجوائز بالأدب، ليف تولستوي وديكنز وفلوبير لم يحصلوا على جوائز، لكنهم أدباء. على الجانب الآخر هناك كثر ممن نالوا جائزة نوبل من دون أن يكونوا جديرين لا بنوبل ولا غيرها، منهم الفرنسي باتريك موديانو وهو روائي متواضع، الجائزة الحقيقية هي القارئ الذي يقبل على الكاتب أو ينفر منه على أساس الاعتبار الأدبي البحت، أما عن الكتابة فلا أطمع من خلالها في أكثر من التواصل مع أرواح أخرى قريبة من تكويني، لكني لا أعرف أصحابها، الكتابة بالنسبة إلي رسالة إلى الآخرين لنحاول معاً أن نفهم بعضنا بعضا. ويرى الخميسي أن المشهد الثقافي المصري لم يتبدل كثيراً بعد ثورتي 25 يناير، و30 يونيو إذ يقول لدينا أدباء، ولكن ليس لدينا حركة أدبية، لدينا نقاد وليس لدينا تيارات نقدية، ثم أضيف إلى كل ذلك قوانين السوق التجارية التي تصطنع الكتاب وتوزعهم بالدعاية بالقسط أو فوري مثل الأطعمة سريعة الإعداد، لدينا أزمة رؤية، فقد ضاع تقريباً مفهوم الأدب، وسيطرت الشكلانية التي ترى أن دور الأدب هو بالأساس العناية بوسائل التقنية بكافة أشكالها، بينما تنقطع الصلة تقريباً بين العمل الأدبي والمجتمع وبين الأدب ودوره الاجتماعي، وربما يكون التبدل الحقيقي مازال يختمر لم يظهر بعد، لكن ذلك لا يمنع وجود كتاب موهوبين من مختلف الأجيال.
مشاركة :