أحمد الخميسي: هذا عصر القصة القصيرة | مصطفى عبيد | صحيفة العرب

  • 7/12/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تتطور الكتابة عبر الزمن، تتبدل الكلمات، وتتغير مدلولات المعاني، وتتجدد الأشكال والأنماط، لكن يبقى الجمال جمالا والقبح قبحا. لا يتغير مذاق الإبداع الحقيقي عبر الزمن، لا يُعاد تشكيله تحت وطأة التطور التكنولوجي، ولا ينسحق أمام عواصف التسليع وهيمنة الفكر التسويقي. والمبدع الحقيقي هو الذي ينجو من فخاخ المادية العصرية، ويبقى قابضا على جمر الإبداع، غير ملتفتٍ لجائزة أو باحث عن سلطة، أو حتى ساع لنيل شهرة. ومن بين الناجين أحمد الخميسي، القاص والمترجم المصري، الذي يفرّ من الأضواء، ويتوارى عن الصخب، منشغلا بمقولته السحرية “الكتابة، ولا شيء آخر.. الكتابة من أجل الكتابة. لا عائد مُنتظر، ولا أضواء ولا ضجيج ولا منصب أو جائزة”. مثل والده المبدع الكبير عبدالرحمن الخميسي، لا يُفكر أحمد الخميسي في الغد، ولا يكترث لتجاهل حكومي، ولا ينشغل بمعارك المثقفين، وكأنه يستفيد من عبارة والده الأثيرة “عشت أدافع عن قيثارتي ولا أعزف ألحاني”، مقررا أنه لن ينشغل سوى بعزف ألحانه وطرح عصارة فكره ورحيق روحه قصصا وكتبا ومقالات. مجلة “الجديد” التقت الكاتب والقاص في منزله بحي مدينة نصر بالقاهرة، وحاورته مستكشفة جوانب عديدة في مشروعه الأدبي، وطارحة تساؤلات متنوعة حول واقع ومستقبل القصة القصيرة وحركة الترجمة وحال الثقافة بشكل عام. الجديد: شهدت السنوات الأخيرة تراجعا واضحا في اهتمام الجمهور العربي بالقصة القصيرة كفنّ إبداعي، في تصورك ما هي الدوافع التي أدت إلى ذلك، وكيف تقرأ مستقبل القصة القصيرة عالميا وفي الساحة العربية؟ أحمد الخميسي: لو كان المعيار في انحسار القصة القصيرة معيارا آخرا غير المبيعات يمكن أن أقبل طرح السؤال. لو قلت لي مثلا إن دور القصة القصيرة يتراجع لأنها صارت غير قادرة على التأثير ودللت على ذلك لبحثت عن الأسباب والدوافع. لكن المبيعات تحديدا ليست معيارا لأن مزاج الجمهور مؤقت ومتغير ومتقلب. إن هذا المعيار وقتي جدا مثل الحرارة عند المريض. من الممكن أن يكون هناك مزاج عام لعدم الإقبال على القصة القصيرة لكنه ليس معيارا أو دليلا على أن هذا الشكل الفني مقبل على الانقراض، مثل الأوبرات الكلاسيكية. وهنا يمكن أن نتحدث عن أن ثمة مزاجا عاما للرواية، وهذا مفهوم ليس في العالم العربي وحده ولكن في العالم كله، لأن هناك أزمة بحث عن طريق ما بعد سقوط مشاريع الأيديولوجيات التقليدية وربما يعتقد الناس أن الرواية لديها القدرة على تقديم طرح أبعد. كما أن انتشار الرواية في العالم العربي لا يعني أبدا انتشار الرواية الحقيقية. فصحيح أن الرواية منتشرة لكن أيّ رواية؟ إن معظم الروايات المنتشرة، إما جنسية أو بوليسية أو مقلدة للنمط الغربي في الروايات التاريخية أو روايات الفانتازيا المنقولة نصا عن الروايات الأوروبية. كل هذا لا يعني أن تلك روايات حقيقية. لقد كانت لدينا في الماضي حركات تعريب وتمصير لكنها مختلفة. خذ مثلا فكرة رواية “دعاء الكروان” للدكتور الراحل طه حسين، هي فكرة فرنسية لأنه لا توجد في جنوب مصر فتاة تنتقم من خلال إغواء الشخص المستهدف للانتقام بإيقاعه في حبها، لكن تلك الفكرة الفرنسية مُطعمة بالنكهة المصرية والأجواء المناسبة للمجتمع الشرقي. وعندما أقول إن الرواية غير منتشرة فإنني أعني ذلك، لأن روايات روائي عظيم مثل محمد ناجي غير منتشرة، وكذلك أبوالمعاطي أبوالنجا أو عبدالحكيم قاسم. وإن كان لي أن أُدلي برأيي في شأن مستقبل القصة، فإنني أعتقد أن وسائل العصر في صالح القصة القصيرة. والسبب أن وقت الناس صار مزدحما وفي حاجة إلى جرعات أدب قصيرة وسريعة وهو المتاح في القصة. وأتصور أن التراجع الظاهر للقصة وقتي وغير حقيقي وربما يكون مرتبطا بتراجع الصحافة، ففي الماضي كانت الصحف تخصص عدة صفحات للقصة القصيرة. أما الآن فإن الصحف نفسها لا تُقرأ. القصة القصيرة الجديد: باعتبارك تكتب القصة القصيرة منذ الستينات ونشرت لك أول قصة وعمرك ثلاثة عشر عاما، كيف تغيرت القصة القصيرة عبر الزمن، وهل أسهمت التكنولوجيا المتطورة في تغير سماتها وخصائصها؟ أحمد الخميسي: القصة بالطبع تطوّرت على مدى العقود الماضية تطورا كبيرا. أتصور أنها تطورت من السذاجة والمباشرة والتعريب إلى الرؤى المكثفة العميقة والأفكار الجديدة. في الخمسينات كان محمود تيمور يجلب قصصا لتشيخوف ويُعربها فبدلا من أن يكون هناك قس، يوجد شيخ، وكان يكتب عليها قصة معربة، لكن بمجيء يوسف إدريس فقد تغير شكل القصة تماما في العالم العربي. وأعتقد أن يوسف إدريس ليس مؤسس القصة القصيرة، لكنه الباني مثلما هو الحال مع نجيب محفوظ، فقبل محفوظ كانت هناك روايات عديدة لكنه يمثل مرحلة البناء. بالنسبة إلى يوسف إدريس فقد أكمل البناء لأنه يتمتع بحس وذكاء باعتباره عاش في القرية وعاش في المدينة. وحاول الجيل التالي إضافة تجارب جديدة كان أبرزها تجربة يحيى الطاهر عبدالله، إبراهيم أصلان وأحمد هاشم الشريف، لكن التطور الأكمل كان على يد محمد المخزنجي الذي نجح في أن يصل بالقصة إلى فكرة الومضة. الجديد: لماذا لم نشهد نجوما في مجال القصة القصيرة بعد جيلك وبعد محمد المخزنجي وسعيد الكفراوي؟ أحمد الخميسي: ليس من المعقول أن ينقرض الإبداع. هناك مبدعون كثر لكن في ظني ليست لدينا حركة نقدية منظمة وفاعلة. إن هناك أسماء جيدة في جيل الشباب. كذلك لدينا مصفاة تسقط منها كل النماذج الرديئة، وهي تلك النماذج القادرة على لفت الأنظار ظنا منهم أن الفن هو الذي يبرز الغرائب، هو الذي يصنع الإدهاش. هذا ليس صحيحا فليست مهمة الفن أو الإبداع صناعة الدهشة وإنما إثارة التفكير وابتعاث الحقيقة. وعلى أيّ حال فهناك أسماء لافتة في القصة من جيل الشباب مثل ماجد وهيب ومحمد خير وعزة دياب وحسن عبدالموجود، وهناك بالطبع أمثالهم في كافة البلدان العربية. الجديد: هناك في العالم العربي من يعتقد أن تجربة القاص السوري زكريا تامر التي تقرن بالحداثة إنما أورثت الثقافة العربية جيلا من كتاب القصة الذين حرمونا من متعة القص، بينما هم يلعبون لعبة التجريب في اللغة والصور الغرائبية والأفق الذي يريد أن يستثمر الشعر في القصة. بينما تبرز بالمقابل تجربة يوسف إدريس قاصا عربيا ممتعا على الطريقة التشيكوفية حتى آخر نصوصه القصصية. ما رأيك في هذا؟ أحمد الخميسي: زكريا تامر في تصوري كان يمارس التجريب لكن تجربته على أيّ حال تحترم باعتبارها تجربة إبداعية. وأتذكر عندما توفي يحيى الطاهر عبدالله سألوا يوسف إدريس عنه، فقال إنه مثل عالم في معمله وقبل أن يتم تجاربه انفجر المعمل. وهنا فإن زكريا تامر قدم تجربة جديدة تخلصت من السرد التقليدي واستخدمت الشعر وكان هذا متوازيا مع تجربة نجيب محفوظ لنقل الرواية من نص الثلاثية التقليدي إلى الرواية الحديثة في اللص والكلاب. وربما كانت محاولة زكريا تامر تستهدف أن يخفي الواقع بحثا عن الجوهر، لكن على أيّ حال تظل تجربة تحترم وهي قريبة الشبه بتجربة محمد حافظ رجب، لكن الفارق أن محمد حافظ لم ينفذ ولم يبق. إنني أحترم التجربة عموما وأحترم تجربة قصاص سوري قبل زكريا تامر هو سعيد حرانية، ما زال إبداعه حيا. أنا شخصيا ليست لديّ مشكلة في الشكل. حتى ما تكتبه أليس مونرو ليست لدي مشكلة فيه، رغم أننا تربينا على أن القصة لها موضوع واحد وشخصية واحدة محورية، لكن مونرو تكتب قصة ذات موضوعين مثل الجمل ذي السنامين، وتؤثّر قصصها في المتلقي، وهنا فالمهم أن تصل التجربة ويبقى الإبداع مؤثرا بعد مرور السنين. الجديد: كتبت قصصا قصيرة ومسرحيات وأدبا مترجما وكتبا سياسية مترجمة ومقالات.. أيّ ألوان الكتابة هو الأقرب والأحب إلى نفسك؟ ولماذا؟ أحمد الخميسي: نعم كتبت ألوانا عديدة من الكتابة. في الترجمة تحديدا أنت تشعر أنك تكتب لأناس آخرين رغم عظمة ما تكتبه، ترجمت أعمال العديد من الأدباء الروس إلى العربية وترجمت كتبا ولقاءات وحوارات. وأتذكر لقاءات عديدة جمعتني بعظماء ونوابغ الأدب الروسي وأتذكر أن أحد الروس الذين يتقنون العربية قرأ إحدى المجموعات المترجمة فقال لي إنها مكتوبة من جديد بلغة تناسب العربية. وأتذكر لقاءاتي بالشاعر رسول حمزاتوف وكيف كانت روحه إنسانية بحتة وكيف امتلك حس دعابة عالية. لقد كتبت كتبا عن روسيا وعن الشيشان وعن الثقافة الروسية، لكن تبقى القصة القصيرة أجمل لون إبداعي أحبه وأفضله. في القصة أنت تكتب نفسك، روحك، جمالك الحقيقي، تصُب إبداعك على الورق، تتواصل مع الناس الذين تعرفهم والذين لا تعرفهم. القصة هي نافذتي لإثارة التفكير وبعث الجمال الإنساني. الجديد: وصف الناقد والأديب علاء الديب مجموعتك القصصية “كناري” بأهم مجموعة قصصية منذ رحيل يوسف إدريس، وبأنك تمثل تجربة يمكن تسميتها بتشيخوف العرب. هل يُزعجك مقارنتك بأدباء آخرين؟ أحمد الخميسي: بالطبع يزعجني أن يصفني البعض بذلك، لأنني لا أرى نفسي جديرا بالوصف الذي يحمل كثيرا من المبالغات والمجاملات. إنني واحد من كتاب القصة القصيرة لكنني لا أرى نفسي أجمل أو أفضل وأتصور أن لا أحد يمكن وصفه بتشيخوف العرب، ذلك المبدع العظيم النادر الذي لا يتكرر. الجديد: شهدت تجربتك في فن القصة القصيرة فترة انقطاع طالت لأكثر من عشرين عاما، لكنك لم تلبث أن عدت إليها مرة أخرى.. لماذا كان الانقطاع، ولماذا عدت؟ أحمد الخميسي: لم يكن في رأسي أبدا أن أكون كاتبا، وعندما دخلت السجن اهتزت كثيرا قناعاتي بالكتابة إذ سألت نفسي السؤال الحائر: ما جدوى الكتابة؟ إنها لم تمنع سجني، ولم تمنع ألمي. وحتى عندما كنا صغارا وكان صديقي جمال الغيطاني يدعوني لنعرض ما نكتبه على كبار الأدباء كنت أسأله عن السبب فيقول كي نعرف طريقنا. ولم أكن متحمسا لذلك وأتذكر يوما أن الغيطاني، وكنا صبيانا في مرحلة المراهقة، قال لي يوما إن نجيب محفوظ يسير كل يوم من منزله صباحا حتى الإذاعة والتلفزيون، حيث يعمل مستشارا وأن موعده ثابت في الثامنة صباحا، وبالفعل أحضرت قصة، وأحضر الغيطاني قصة ووقفنا عند كوبري قصر النيل حتى مرّ نجيب محفوظ فأوقفناه وصافحناه وقدمنا له قصصنا. وفي اليوم التالي ذهبنا إليه في الوقت والمكان نفسه وسألناه عن رأيه في ما كتبناه فقال للغيطاني: هذه القصة أعطيها تسعة من عشرة، وقال لي وهذه القصة أعطيها تسعة من عشرة. لكن في ما بعد اكتشفنا أن الرجل مجامل جدا وأنه يرد بشكل مهذب على كل شخص. وسافرت بعد ذلك إلى الاتحاد السوفييتي لكن بعد أن عدت شعرت أن متعتي هي أن أكتب وأن أكتب قصصا فعدت مرة أخرى. الجديد: في حالة عمل الأديب بالصحافة، إلى أيّ مدى تتأثر كتاباته الإبداعية بالعمل، وهنا كيف يمكن للمبدع الفرار من فخاخ الكتابة الصحافية؟ أحمد الخميسي: دخلت الصحافة في الأصل حتى أكسر الخوف من اقتحام الأدب. كنت أسعى إلى كتابة حكايات صحافية بشكل بليغ ومختلف، وأعتقد بالفعل أنني فعلت ما أردت، ولم أتأثر سلبا بالصحافة لكن الكتابة الصحافية عندي هي التي تأثرت بالكتابة الأدبية. الجديد: كيف تُصاغ اللغة لدى الأديب، وهل هي تراكمات وخبرات سنين العمر، أم هي موهبة تولد معه منذ البداية؟ أحمد الخميسي: اللغة بحر لا ضفاف له وكل يوم يجب أن يتعلم الكاتب الجديد. أتذكر يوما اختلف الشاعر والروائي عبدالرحمن الشرقاوي مع مقال من مقالات طه حسين وردّ عليه، مؤكدا أن ما كتبه مضاد للغة فقام طه حسين بالرد على الرد، فكرر الشرقاوي رده، حينئذ نشر طه حسين بيان اعتذار معترفا بخطئه. ومن هنا فإن اللغة لا تعرف الكبير أو الصغير، وكل يوم يمكن أن تتعلم فيها أكثر من قبل. اللغة بلا حدود ولا تولد مع الإنسان، هي معرفة لا تنتهي وأعتقد الاعتقاد نفسه الذي قاله يحيى حقي “لا يوجد أدب دون عشق للغة”، وعندما ترى أي أديب كبير في العالم ستجده لغويا بارعا. وكان نجيب محفوظ يقول “إن أكبر صراع خضته في حياتي كان مع اللغة”. اللغة ليست في الأدب أداة تواصل وإنما هي عنصر جمالي فني من صميم العمل. ولا يمكن استثناؤها من العمل. سأضرب لك مثلا لو كانت أمامك سيدة جالسة وترتدي رداء معينا ينزلق على هذه المنطقة (أشار إلى منزلق كتفه) يجب أن تعرف أن هذه المنطقة اسمها منزلق الكتف. واللغة هي أساس الوصف الجيد. الجديد: أنت واحد ممن حازوا جوائز أدبية عديدة، في رأيك كيف لعبت الجوائز الإبداعية دورا في تنمية الحركة الإبداعية العربية، وهل ترى أن بعض الجوائز مسيسة؟ أحمد الخميسي: كل الجوائز مسيسة وليس ذلك معناه أنها تصب في توجه سياسي بعينه، لكنّ معناه أن هناك أهدافا معينة تحرص الجائزة على تشجيعها. وجائزة نوبل مسيسة دون شك لأنها منحت لكتّاب ومبدعين ضعفاء، منهم صحافيون ومطربة وأدباء أضعف من أدباء الأقاليم في بلادنا. والجوائز العربية تهدف إلى رفع اسم البلد، وهذا مشروع وطبيعي. وعندنا في مصر الجوائز تمنح للأدباء الموالين للدولة، لكن لا يمنع ذلك من أن تمنح لأدباء حقيقيين في بعض الأحيان لتحسين سمعة الجائزة. وبالطبع الجوائز تلعب دورا في تشجيع الإبداع لأنها تلفت النظر إلى الكاتب فضلا عن قيمتها المادية في بلادنا. الجديد: إلى أيّ مدى تعكس فكرة الشهرة والجماهيرية اتساقا مع مستوى الأديب في العالم العربي، وكيف ترى فكرة “البيست سيللر”، هل هي مُحفز للكتاب ولدور النشر للترويج بشكل أوسع لكتبهم، أم هي تدخل في باب تسليع الإبداع؟ أحمد الخميسي: ليس كل مبدع حقيقي معروفا، وكما قلت لك فهناك روائيون حقيقيون غير معروفين. وهناك أمور عديدة عديمة القيمة الأدبية منتشرة وهذا طبيعي وموجود في العالم. الجديد: كيف، وأنت مترجم مخضرم، تلعب الترجمة دورا في صقل موهبة الأديب؟ أحمد الخميسي: بالطبع تلعب الترجمة دورا كبيرا، فالاطّلاع عموما مفيد ومهم وكلما كان الاطلاع متنوعا فإن مواهب المبدع تتسع وترتقي. الجديد: هل تعتقد أن هناك ألوانا من الأدب العالمي لم يمر بها قطار الترجمة العربية؟ أحمد الخميسي: المؤسف أنه لا يوجد تنسيق بين الجهات التي تتولى الترجمة على مستوى العالم العربي، إلى درجة أن رواية “ذكريات غانياتي الحزينات” ترجمت في الوقت نفسه أربع مرات بأشكال مختلفة. وعلى مستوى كل بلد لا توجد خطط واضحة للترجمة. إنني أتساءل لماذا لا توجد لدينا مثلا قواعد بيانات للمترجمين وللأعمال المترجمة وللأعمال المستهدفة. إن ذلك سهل لو أردنا خدمة الإبداع والثقافة العربية. أنا ضد إعادة الترجمة إلا إذا كانت الترجمات السابقة ناقصة أو محمّلة بعيوب شديدة، فمثلا مسرحية “هاملت” لوليم شكسبير ترجمت في بدايات القرن العشرين لكن المترجم غيّر في النهاية ليرضي الجمهور، لذا عاد خليل مطران لإعادة ترجمتها مرة أخرى. أتذكر أن نجيب محفوظ كان يقول لي إن محمد السباعي (والد يوسف السباعي) كان يترجم لموباسان أعمالا عديدة، لكنه يضيف نصوصا من عنده، فمثلا هناك قصة يمنح البطل فيها البطلة هدية ونجده يعلق عليها في المتن، “وكما قال رسول الله تهادوا تحابوا”.، وهذا غير موجود في النص. هنا فإن الترجمة السابقة لا يعتد بها لأنها تضمنت تزويرا. يجب أن نترجم من دول جديدة ونستمع لمبدعين من دول غير معتادة مثل كوريا واليابان والصين، وغيرها. الجديد: أنت صاحب توجه سياسي وسبق اعتقالك بسبب انتمائك إلى اليسار، هل تتأثر كمبدع بتصوراتك السياسية، وكيف يتجنب المبدع الانزلاق في صراعات الفكر السياسي عند إنجاز مشروعه الإبداعي؟ أحمد الخميسي: أنا محظوظ أنني دخلت السجن، لأن ذلك كان لي بمثابة فترة تأمل حقيقية، أتاحت لي طرح الأسئلة مرة أخرى. وسعيد بذلك. ولا أعرف كيف يمكن للمبدع أن يتجنب السياسة في مشروعه الإبداعي، هذا صعب للغاية. الجديد: في ظل التغيرات والتحولات السياسية العميقة بالمنطقة، هل ما زال اليسار طرحا مقبولا في العالم العربي، وكيف ترى الواقع السياسي في ظل تغول التيارات الدينية، وأيهما أولى بالنضال الآن التنوير أم العدالة الاجتماعية؟ أحمد الخميسي: بالطبع اليسار في مأزق، لكن تبقى فكرة العدالة فكرة ضرورية ليس في الفكر الإنساني فقط وإنما في تجربة البشرية كلها، فهي حجر زاوية في تكوين البشرية. وأعتقد أن العدالة تسبق التنوير بلا شك. وأعتقد أن الطرح اليساري اختلف وتطور وتصارع. وأعتقد أن الطرح اليساري ضعيف جدا. الجديد: إلى أي مدى تأثر وضع الحريات في العالم العربي بما يُسمى بالربيع العربي، وهل تقبل بنظرية المؤامرة لتفسير المشهد؟ أحمد الخميسي: المؤامرة حاضرة في كل حراك. هذا طبيعي، لكن بلا شك فإن الربيع العربي لم يُحسّن أوضاع الشعوب العربية، وأنا غير راض بالمرة عن أوضاع الحريات في عالمنا العربي. الجديد: قلت من قبل إن المثقفين المصريين نشأوا في أحضان السلطة منذ أيام محمد علي باشا، وكتبت أن المثقف يحتاج دوما إلى غطاء حكومي يستظل به مهما كلفه الأمر من تنازلات.. بشكل عكسي كيف ترى المثقفين المصريين الذين استفادوا من معارضة السلطة، وتكسّبوا من مخاصمتها؟ أحمد الخميسي: لا ألومهم بالطبع، وأعلم أن المعارضة قد تصنع لمعة إعلامية لكن تلك المعارضة مدفوعة الثمن. وتجربة الشاعر أحمد فؤاد نجم مثال عبقري على ذلك المعارض لكنه دفع الثمن، وليست ثمة مشكلة في أن يلمع نتاج معارضته. الجديد: باعتبارك نجل مبدع كبير وشهير متنوع المواهب وهو عبدالرحمن الخميسي، إلى أيّ مدى عانيت من طغيان شهرة الأب ومحاولات المقارنة بينكما، وهل يزعجك ذلك، وهل تعتقد أن تفوّق الأب إبداعيا يمثل خصما من فرص تحقق وتفوق ابنه الإبداعي؟ أحمد الخميسي: كنت أقرب شخص من عبدالرحمن الخميسي، وكان مبدعا حقيقيا وفنانا حرا، وأعطاني النموذج، وعلاقتي به أكبر بكثير وأعمق من مجرد ابن. إن مجرد اقتران اسمي باسمه يسبب لي سعادة بالغة، ومقتنع بأنني فرع من شجره ضخمة. وكل شيء أكتبه أريد أن أثبت به أنه فنان ولست أنا الفنان. الجديد: هل فكرت في أن تكتب سيرة المبدع عبدالرحمن الخميسي؟ أحمد الخميسي: بالطبع أفكر في ذلك، وهذا مشروع محبب لي وعشت معه ذكريات رائعة، ورأيت معه زعماء كبارا مثل الملك حسين وياسر عرفات ومعمر القذافي، وقابلت أدباء ومبدعين كبارا وشخصيات عظيمة استثنائية. وهو لم يكن شخصية عادية، بل كان شخصية تقطر فنا وإبداعا، شعرا، مسرحيات، قصصا، أفلاما، وقام بالتمثيل. والغريب أنه لم يكن لديه مكتب أبدا في حياته. الجديد: قال الراحل عبدالرحمن الخميسي عشت أدافع عن قيثارتي ولا أعزف ألحاني، في إشارة إلى كثرة المعارك غير الإبداعية التي خاضها واستنزفت طاقاته، كيف تعلمت من ذلك وإلى أيّ مدى استطعت تجنب الدخول في معارك سياسية وفكرية بعيدا عن الإبداع؟ أحمد الخميسي: هذا درس مهم تعلمته وتعلمه كثيرون غيري، لذا فلست حريصا على شيء سوى أن أكتب. لا يهم أين؟ ولا يهم إن كنت نجما أم لا؟ ولا يهم شيء سوى إسعاد الناس بالجمال الحقيقي. الجديد: لمن تقرأ من المبدعين العرب، وإلى أيّ مدى تتفاعل مع كتابات الأدباء الشبان، وكيف تراها، وهل يُزعجك لمعان نجوم غير حقيقية؟ أحمد الخميسي: أقرأ للجميع، وأطّلع على كافة الإصدارات، خاصة في مجال القصة ولا يزعجني لمعان نجوم غير حقيقية، لأني أعرف في النهاية أن الجمال الحقيقي هو الذي يتغلب على الزمن. الجديد: ما الذي يشغلك الآن وما الذي تعمل عليه؟ أحمد الخميسي: الإبداع يولد ولا يُصنع. أحب القصص وأحاول المرة بعد الأخرى، وعندي قصص كتبتها ثلاثين مرة حتى تخرج بشكل أرضى عنه.. والكتابة هي ما تشغلني.. هي حياتي. *ينشر بالاتفاق مع "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية

مشاركة :