هل الإسلام كتلة واحدة تاريخيا؛ حتى يستطيع الباحثون وضعه ضمن مفهوم محدد جامع شامل؟ وإذا كان خلاف ذلك، فهل حققت مشاريع دراسة المجتمعات الإسلامية سوسيولوجيا وفكريا وسياسيا وأنثروبولوجيا على يد الكثير من المفكرين العرب باعتبار أن الرقعة الجغرافية للإسلام تشمل مجتمعات متنوعة عرقيا وقوميا وقبائليا ولغويا ومذهبيا، ومختلفة في عاداتها وتقاليدها، ومن ثم فهمها وتطبيقها حسب هذا الفهم للإسلام، المقدمات الضرورية التي تجعل من مفهوم الإسلام مفهوما يحل التناقض القائم بين النص المؤسس من جهة وتطبيقاته التاريخية في حياة المجتمعات الإسلامية من جهة أخرى؟هذه الأسئلة تضعنا مباشرة أمام الاجتهادات، التي قام بها المستشرقون، الذين سعوا إلى تحقيق نصوص التراث الإسلامي بمختلف مجالاته، والقيام بترجمته، والتعريف به لدى شريحة واسعة من القراء الغربيينلكن هذه الفضيلة لهم، لا تخفي صورة التراث التي ارتبطت باجتهاداتهم، والتي في غالبيتها، لا تلبي سؤال أزمة التراث لدى حاضر العرب ومستقبلهم، ولا تجيب عنه بقدر ما تخضع هذه الاجتهادات عند أغلب المستشرقين للشرط المنهجي، الذي التزموا به. ناهيك عن البعض منهم الذي تحوم حوله الشبهات لارتباطه بالاستعمار ومخططاته.لكن تحقيق النصوص أو أمهات الكتب التراثية بمعزل عن دراسة سيرورة المجتمعات التاريخية، التي تلقت هذه النصوص، وارتبطت بها ارتباطا عضويا، واشتبكت مع مقولاتها، بحيث أثرت على علاقاتها الاجتماعية والثقافية واللغوية، لا يمكن له أن يؤدي إلى فهم الظاهرة الإسلامية بكل أبعادها الحضارية.يمكن الاستشهاد هنا بواحد من أبرز المستشرقين الأنثروبولوجيين الأمريكيين وهو كليفود غيرتز، الذي عاش سنين متنقلا -في الستينيات والسبعينيات الميلادية- بين أندونيسيا والمغرب مدونا ملاحظاته، التي وثقها في كتاب «ملاحظات الإسلام: التطورات الدينية في المغرب وأندونيسيا»، الذي كان له وقع كبير على الدراسات الأنثروبولوجية للتراث.أورد هذا المثال لأدلل على أن المعايشة عن قرب للمجتمعات في التوجه الأنثروبولوجي، لا تكف عن إعطاء نتائج للباحث، قد تختلف في جوانبها، حد التعارض، مع ما يتوصل له باحث مستشرق آخر، ملتزم بمنهج تحقيق نصوص التراث فقط، رغم أن مرجعية النصوص في الدراسات تظل مرجعية واحدة للاثنين على اختلاف موضع النص في مشروع أو دراسة كل منهما.لذلك -وبدون أن أدخل في متاهة المقارنة بالأمثلة- اتسمت معظم المقاربات الفكرية عند المفكرين العرب، الذين يدّعي أصحابها بأنهم وضعوا أيديهم على مكمن الخطر الذي يمثله المستشرقون في مقارباتهم للحضارة الإسلامية، ومكمن الخطر عندهم هو قراءة هؤلاء للإسلام قراءة تجزيئية، لا تؤدي سوى إلى مزيد من سوء الفهم، والضبابية وأيضا الابتعاد عن روح الحضارة الإسلامية.لكن المفارقة أنهم وقعوا فيما حذروا هم منه، فالبحث عن معنى الإسلام في تطبيقاته التي تم التعبير عنه -حسب رأيهم- من خلال سلسلة من التيارات المعرفية والمذهبية في التاريخ الإسلامي: إسلام أهل الحديث، إسلام القرآن، إسلام الفلاسفة، إسلام الشيعة، إسلام السنة.. ألخ.أليس مثل هذا التوجه في البحث، لا يؤدي سوى إلى مزيد النظرة التجزيئية للحضارة الإسلامية وليس التراث، وبالتالي لا يؤدي سوى إلى صعوبة الوصول إلى مفهوم جامع مانع للحضارة الإسلامية؟يلفت نظرنا المفكر والباحث الباكستاني شهاب أحمد في كتابه المهم «ما الإسلام؟ في مغزى أن تكون منتميا إلى الإسلام» الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود في 2020م إلى أن الالتباس الذي أفضى إلى تناقضات المفهوم في حال اقترانه بكل ما هو إسلامي: الحضارة الإسلامية، الفلسفة الإسلامية، الفن الإسلامي.. إلخ، لم سوى إحدى نتائج النظرة التجزيئية تلك.وهو يقترح مسارا آخر لفهم الحضارة الإسلامية، انطلاقا من أفق جغرافي مختلف، سأخصص له مقالا آخر لأهميته للدراسات الإسلامية.@MohammedAlHerz3
مشاركة :