يعد المفكر اللبناني رضوان السيد واحدا من الأسماء القليلة عربيا، التي يُسجل لها مبحث نوعي وقول مميز في "مسألة الدولة العربية" القائم على تأسيس مفاهيمي قلَّ نظيره في الساحة الفكرية العربية، ومنه قوله في كتاب "سياسات الإسلام المعاصر" (1997): «إن المدخل العملي لقراءة مسألة الدولة أو النظام السياسي الحديث عند العرب، يقتضي قراءة أركيولوجيا المصطلح السياسي قراءة دقيقة ومعاينة المسألة في السياق ذاته، وذلك لكشف طبيعة العلاقة بين الاسم والمسمى في المدى والمجال المحللين. فهاتان العمليتان: الكشف المصطلحي، والتوازي المؤسسي ضروريتان لفهم طبيعة فكرة الدولة العربية، والفكر السياسي العربي، والخطاب السياسي العربي ومواقع السلطة في المجتمع».أهمية الموضوع وعمق الطرح جعلا حضور مبحث الدولة لازما في جل أعمال السيد، إذ نجده يُوليه عناية خاصة في معظم مصنفاته، كما كان الشأن بالنسبة لكتابه "أزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسي"؛ الصادر قبل ثلاث سنوات عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، الذي يؤكد فيه أن تجربة الدولة – من وجهة نظر - ترتبط بالأزمنة الوسيطة، مع حفظ أصولها وتطوراتها المحدودة بالزمان والمكان. ويرفض مطلقا بقاء الفكر الإسلامي أسير سردية فضائل دولة الراشدين ومساوئ السلطة في ديارنا.يعزز الرجل أطروحة بحفريات تفصيلية في تاريخ الدولة منذ القرن التاسع عشر؛ أي الدولة من المنظور النهضوي. فالتفكير الإسلامي في الدولة – وفق تصوره - مرت بأربع مراحل أساسية: أولا؛ دولة المؤسسات والمصالح العمومية مع مفكرين أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي. ثانيا؛ الدولة المدنية والحكم المدني في الإسلام مع محمد عبده وعلي عبد الرازق. ثالثا؛ الدولة الدينية والخلافة الإسلامية والإمامة العظمى مع رشيد رضا والإحيائية الإسلامية. وأخيرا؛ الصحوة الإسلامية والنظام الإسلامي الكامل. تولد عن المرحلة الأخيرة اضطرابات شديدة وصراع بين الدولة القائمة (النظام السياسي) ذات الطابع العسكري الاستبدادي والأمني القمعي وأصحاب المرجعيات الدينية، ما أفضى إلى مواجهة ثنائية جعلت أصحاب هذه المرجعيات في صف ضد الدولة والمؤسسات الدينية التقليدية في صف آخر.لقد كان لهذا الأمر، ولطبيعة المواجهة بين الطرفين بالغ الأثر في علاقة الدين بالدولة من ناحية، وعلى ظهور الأصوليات الراديكالية الدينية من ناحية أخرى. ما أثر - وبشكل سلبي - على تبين أي رؤية استشرافية واضحة لعلاقة الدولة بالدين في العالمين العربي والإسلامي.غير أن التفكير الجمعي في هذه القضية الشائكة (الدولة العربية) لا يكون إلا مناسباتيا، وعادة ما يتعلق ببروز حدث ذي بعد هوياتي أو تكون له تداعيات سجالية فكرية، فيختلط فيها السياسي بالهوياتي والثقافي. وهذا ما لم يقع كاتبنا في فخه، إذ حافظ على التراكمية في مسائل الدولة العربية لدرجة تحول فيها كتابته في الموضوع إلى "كتابة نضالية"؛ وهو ما أكده في مقدمة الكتاب بقوله: "كتاب نضالي لأن همَّه الثاني طرح بدائل لإخراج التفكير الديني والممارسة الدينية من الأفق المسدود للعلائق بين الدين والجماعة، وبين الدين والدولة، وبين الإسلام والعالم".قدم السيد، إلى جانب البحث في البدائل، تشخيصا دقيقا لمآزق الدولة العربية التي تعزى في بداياتها إلى المشكلات التي برزت بين التوجهات الإسلامية، وبين دعاة الدولة الحديثة، وصار من الضروري العودة لمراجعة الأساسيات: لجهة معنى الدولة الحديثة وشروطها، ولجهة القيم الإسلامية الكبرى والتأسيسية، وقابليتها لدعم مشروع الدولة الحديثة أو معارضته.في نقطة مثيرة ونوعية يعمد الكاتب إلى طرح مقارنة بين التيار الإحيائي؛ ويقصد به حركات الإسلام السياسي، والتيار الشيعي بعنوان "ولاية الفقيه وولاية المرشد"، مذكرا بداية بأن الحركة الإحيائية عند السُنة ظهرت وتطورت خارج المؤسسات الدينية، بينما ظلت المؤسسة الدينية الشيعية ذات مرجعية قوية حتى في تلك الحركات والجمعيات؛ لأن بعضها نشأ في قلبها وداخل دوائرها، بينما حاول البعض الآخر التلاؤم معها أو التظاهر أحيانا بذلك حتى لا يصدم مشاعر العامة المطمئنة والمستكينة إلى مؤسسة الفقهاء/المراجع.وانتهى إلى أن الإحياء (سواء في شكله السني أو الشيعي) يستبطن ضمنا فكرة أو مبدأ الدولة الدينية؛ لأنه يجعل من الدين أساسا للمشروعية في المجتمع والدولة. فالسني الإحيائي استجد لديه الاعتقاد بأن الدولة ركن من أركان الدين، والشيعي الإحيائي استجد لديه الاعتقاد بأن الإمامة المؤجلة لحين ظهور المهدي يمكن إقامتها اليوم باعتبارها دولة تمهيد، بيد أن المشروع الإحيائي هذا عندما تبلورت معالمه العقائدية انتهت قيادته لدى أهل السنة إلى تنظيم ومرشد، بينما انتهت قيادته لدى الشيعية إلى ولاية فقيه.يقترح السيد من أجل تجديد الدولة الوطنية لشرعيتها، والحفاظ على مقوماتها في ظل ما يتربص بها من مخاطر داخلية وخارجية ثلاثة أمور:- قيام مجموعة استراتيجية أو فريق استراتيجي من الدول المستقرة للحفاظ على استقرارها وأمنها أولا، والتفكير والتقدير والتشاور والتصرف بشأن استعادة الأمن والاستقرار في الدول المضطرة ثانيا.- تجديد الفكرة العربية والنهوض بها ومعها، ومع يفترض ضمنيا إنعاش أدوار جامعة الدول العربية واستعادة دور الريادة في التعاطي مع الأحداث العربية.- المواطنة التي تنتج الإرادة العامة التي تعمل بالفعالية والمشاركة على صون الحقوق الأساسية للمواطنين، وتشجع على القانون والنظام والحرص على الأوطان وحدة وانتماء وسلاما واستقرارا.يعلق على الأمر الأخير قائلا: «بيد أن مسألة المواطنة يتهددها أمران: التحدي الديني، وتحدي الخوف على الدولة بحيث يسكت المواطنون على الضغوط وكتم الحريات من أجل الأمن والاستقرار. وهذا ما يجري في عدة بلدان عربية الآن».Image: Author: محمد طيفوري من الرباطpublication date: الاثنين, مارس 13, 2017 - 03:00
مشاركة :