ترجع فرحتنا ونحن صغار في حلول شهر رمضان وصيام أيَّامه إلى معرفتنا قرب حلول عيد الفطر، وما يحمله لنا العيد من كسوة جديدة وعيديَّات نقديَّة، ولمَّة العائلة إلى المائدة في مجلس استقبال المهنِّئين. (عشِّر بشِّر)، كانت تردِّدها الجدَّة -يرحمها الله- على مسامعنا في اليوم العاشر من الشهر المبارك، ونحن في مقتبل العمر نجاري من في البيت من الأهل في الصيام خشية أن تضعف إرادتنا، فنشرب من خلف الزير ونضيِّع صيام يومنا. نقاوم ما أمكن إغراء موية الزير الفخاري المتصدِّر مطبخنا، وفي عنقه مغراف من ألومنيوم بخَّرته الجدَّة بالمستكة، ليتذوَّق الشارب منه نكهة ماء مبرَّد ومعطَّرة... لسنوات عديدة من طفولتنا، مرَّ علينا الشهر المبارك، وساعات الإمساك عن الطعام والشراب ما بين الخمسة عشر والسبعة عشر ساعة، والحرارة تقارب الخامسة والأربعين درجة مئويَّة. لم تكن الكهرباء قد دخلت بيوتنا، والإضاءة بلمبات الكيروسين، والتبريد بمهفَّات منخوص النخيل، وقبضة اليد طويلة من جريد النخيل، يستفاد منها أيضًا في طرد الذباب والحشرات الحائمة، وفي إيقاد الفحم حتَّى الجمر للتدفئة والشواء.. كما كانت العمَّات والخالات تستخدمها لتأديب الأطفال دون إلحاق أذًى بهم. في الساحة أمام الحرم النبوي الشريف، كنَّا نلتقي أطفال الحارة وشبابها.. وذروة اللقاء كانت بعد صلاة العصر، وقبل الغروب بساعة خاصَّة حيث ينتشر باعة قوالب الثلج لتبريد الماء في المنازل، وباعة السمبوسك بجميع أشكاله وأنواعه.. نشتري قطعة من قالب الثلج، وكميَّة من السمبوسك ونجري بهما إلى البيت ليصل الثلج على شكله والسمبوسك بحرارته. في الساحة أيضًا تنصب موائد الرحمن لإفطار الصائمين.. وفي المساء بعد التراويح، تنصب بسطات البليلة والفول والمخلَّلات إلى جانب الحلويات.. ومن ثمَّ موائد السحور، من سليق طبق الحجاز بدون منافس وحواضر البيت وتشكيلة من المطبق والمانتو والفرموزا والأجبان والفول المدمس. مع تقدُمنا في الدراسة العصريَّة بعد أن ودَّعنا الكتَّاب والتحقنا بالمدارس النموذجيَّة، اتَّجهنا إلى المذاكرة في الحرم النبوي الشريف قاصدين أساتذة أفاضل قدموا من مصر زائرين، ومنهم متقاعدين، وقد أسند كلُّ منهم ظهره إلى عمود من أعمدة الحرم مُبدين استعدادهم لشرح ما استعصى علينا فهمه في المدرسة من المقرّرات، والمواد العلميَّة واللغات الأجنبيَّة خاصَّة.. غالبيَّة الأساتذة كانوا من مدرِّسي مدارس مصر الثانويًّة، ومنهم من شغل مناصب رفيعة في المعاهد والجامعات. كانت جلساتنا في الحرم تمتدُّ لساعات متأخِّرة متمتعين بإضاءة الكهرباء ونسمات الهواء العليلة، وغالبًا ما كنَّا نواصل السهر في الحرم، ونجري إلى بيوتنا مع قرب ساعة الإمساك لتناول السحور مع الأهل بعد ذلك، ونعود إلى الحرم لصلاة الفجر جماعة، فعودة إلى المنزل لأخذ قسط من النوم، ومن ثمَّ إلى المدرسة حتَّى وقت صلاة الظهر، وما بين صلاتي الظهر والعصر نأخذ قيلولة راحة واسترخاء. ومع بداية العشر الثانية من الشهر المبارك، يصطحبنا الوالد إلى خيَّاط الثياب الهندي ليأخذ مقاساتنا ويخيط لنا ثياب العيد.. أمَا الجدَّة في البيت، فكان على عاتقها ثياب الوالدة والأخوات بعد العودة من السوق حاملة الأقمشة وكلف تجميل الفساتين. ومع دخول العشر الأخيرة من رمضان، يبدأ التخمين لما قد يدخل جيوبنا من عيديَّات نقديَّة وطرق صرفها لنفرح ونتباهى بالحصول على بشارة العيد! كتبت علينا غربة الوطن.. وها نحن من وطن الغربة، نتابع دخول شهر رمضان عبر القنوات الفضائيَّة وموَاقع التواصل الاجتماعي، وغالبيَّة أطفالنا وأحفادنا لا تصل الفرحة إلى قلوبهم، ولا يعيشون روحانيَّة هذه الأيَّام، ولهذا وسواه يشدُنا الحنين إلى طيبة الطيِّبة؛ المدينة المنوَّرة، وتمنِّيات لقضاء ما تبقَّى من رمضان وأيَّام للعيد في جوار بيت رسولنا الكريم، ومع الأهل والأصحاب، إنَّه طفل ذكريات طيبة الباقية معنا طوال الحياة.
مشاركة :