لم تحرر هذه المقالة من باب النوستالجيا والحنين إلى سالف العهد، فقد جرت العادة مثلا أن يصفنا أهل الفكر في الغرب أننا - أي العرب- أمة ماضوية تحن إلى ماضيها وتود العيش فيه مادام التاريخ عندها لا يسير في مسار خطى غده أفضل من يومه ويومه أفضل من أمسه أو هكذا على الأقل يتوسم الإنسان الآفاق المستقبلية وبهذا المعنى تأخذ الحياة معناها الحقيقي باعتبارها كدا وصيرورة ،وإلا كان وجودنا حشوا تاريخيا مادامت التجربة التاريخية قد اكتملت في القرن الأول الهجري وما على الأجيال إلا الاقتداء والاحتذاء والسكون بدل الفاعلية والصيرورة. إنما جزائر الثمانينيات من الناحية الثقافية عاشت تجربة جيدة امتص فيها المواطن حتى البسيط الثقافة كما تمتص الإسفنجة الماء فتشرب وتلقى تربية ضمنية على الاختلاف والتعدد والتناغم بعكس مجتمع اليوم الذي تسعى فيه الماضوية إلى التنميط والتوحيد وإلغاء المختلف والبحث عن المؤتلف فقط أي من يؤمن بانتكاسة التاريخ وحركته القهقرى إلى وراء للاندماج والاندغام في القرن الأول الهجري. فمما عرفته الجزائر مثلا في إطار الفاعلية الثقافية الخصبة والإسلام المرن المنفتح على العصر دون اجتثاث جذوره ملتقى الفكر الإسلامي الذي كان يعقد في كل عام في مدينة من مدن الجزائر الكثيرة في الشمال أو الشرق أو الغرب أو الجنوب وتوجه الدعوات إلى كبار مفكري العالم ،مؤمنهم وملحدهم ومن مختلف الأديان والمذاهب لمناقشة مسألة من مسائل الحياة الحديثة أو قضية من قضايا الإسلام في مواجهة العصر ،وكانت المحاضرات التي تقدم خلال هذا الملتقى تطبع في مجلدات وتوزع على الجامعات والمراكز الثقافية والمكتبات العامة لتوضع كمرجع علمي بين يدي الباحثين والقراء والمهتمين بل وكانت هذه الملتقيات العالمية تعرض على شاشة التلفزيون الجزائري، محاضراتها ومداخلاتها وتعقيباتها فيتابعها الناس جميعا على اختلاف مستوياتهم وأعمارهم ومشاربهم الثقافية ذكرانا وإناثا وساهمت هذه الملتقيات في رفع درجة الوعي والبحث عن المضمون وفي قبول الآخر المختلف أسوة بما كان يشاهد داخل هذه الملتقيات، ونالت هذه الملتقيات سمعة عربية كبيرة بل كانت وجها ثقافيا ودينيا مشرقا للجزائر خلال تلك الحقبة. وكان الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم وزير التعليم الأصلي ثم الشؤون الدينية بعد ذلك أحد الوجوه الثقافية والسياسية الجزائرية التي خططت لتنظيم هذه الملتقيات منذ السبعينيات وسعت إلى إنجاحها وتكريسها ملتقيات عالمية عبر استضافة الوجوه الثقافية والفلسفية والدينية الكبيرة عالميا وفي كرم الضيافة والحفاوة التي لاقتها في هذا البلد. وكان ممن عرفهم الجزائريون خلال هذه الملتقيات رجاء جارودي ، ومحمد الفحام ،عبد الحليم محمود ومحمد سعيد رمضان البوطي وعبد الهادي أبو ريدة وعثمان الكعاك والطيب تيزيني، عثمان أمين ،عائشة عبد الرحمن، يوسف القرضاوي محمد الغزالي ،محمد أركون وغيرهم ممن لا يحصيهم عد، وانثال على هذه الملتقيات علماء الشيعة ومفكروهم في لفتة حضارية بليغة لا تؤمن بالإلغاء والإقصاء لاختلاف المذهب أو النحلة مادام الهدف الفاعلية الفكرية والرؤية الحضارية والإنسانية ومفكرو الأديان الأخرى وأئمتها الروحيون مادامت الأديان وجدت لإسعاد الإنسانية ولم شملها لا لفرقتها وتشرذمها وتعاستها. وكانت مرحلة الثمانينيات التي تولى فيها الراحل الشاذلي بن جديد زمام السلطة خلفا للراحل هواري بومدين قد عرفت انفتاحا ورفعت المرحلة شعار" من أجل حياة أفضل" وذلك يعني الانفتاح على الغرب وعلى قيم الاستهلاك مع إفراد هامش ضئيل للحريات مما سمح للإسلاميين بالصعود وذلك بالتحديد ما عرفته مصر بعد رحيل جمال عبد الناصر وتولي محمد أنور السادات السلطة ففي تلك الحقبة أطلق الإسلاميون من السجون واعتلوا المنابر مثل الجزائر تماما لخنق اليسار والالتفاف بالتدريج على المرحلة الاشتراكية . وفي ذلك ما يحمد فقد عاد على الثقافة باليمن والخير العميم فقد نشطت معارض الكتاب واحتل معرض الجزائر الدولي للكتاب اهتماما بالغا عند الناس ولو أن الألوية كانت للكتاب الديني ولكن في المقابل نشطت سوق الكتاب الأدبي والفكري والعلمي وقد اكتسب معرض الجزائر أهمية عربية ودولية أسوة بمعرض القاهرة وبغداد والرباط وغيرها ،كما عرفت وزارة الثقافة تولي مثقفين أكفاء هذه الوزارة اعتنوا حقا بالثقافة الجادة كسبيل للتنوير والتحرير أمثال أحمد طالب الإبراهيمي،عبد الحميد مهري عبد المجيد مزيان وغيرهم وفي عهدهم تداول القراء مجلة "الثقافة" الشهرية وعرف المبدعون الشباب مجلة "آمال" كما تداول الأطفال مجلة "مقيدش" التربوية التثقيفية والمجتمع ككل مجلة "ألوان" وغيرها كما كان اتحاد الكتاب الجزائريين منبرا حقيقيا للكلمة الحرة المبدعة وليس مجرد هيكل شبه معدوم الفعالية ،كما كانت الأسابيع الثقافية التي كانت تستضيف الدول العربية والصديقة من الشرق والغرب عبر مثقفيها وفنانيها وكتابها وعبر فولكلورها فرصة للجزائريين للاطلاع على هذه الثقافات والاحتكاك بها في كثير من المدن الجزائرية الداخلية والساحلية على السواء. أما التلفزيون الجزائري الذي عايش الناس بثه من الرابعة بعد الزوال إلى منتصف الليل وعلى الرغم من كونه القناة الوحيدة التي يتوفر عليها الجزائريون إلا أنه عرف تألقا بمواصلته رسالة التنوير والتحرير والإمتاع على الرغم من النقد الموجه إليه كونه يفرد مساحة كبيرة للفرنسية –الأجنبية-على حساب اللغة العربية وهي اللغة الوطنية وانهماكه تارة أخرى في التبشير بقيم الحياة الأمريكية عبر عرض مسلسل "دالاس" الشهير لكنه في الغالب كان فعلا الشاشة التي تجمع الجزائريين للتثقف والاستمتاع ،فمما كان يعرض من حصص ثقافية كبيرة أيامها حصة أقلام على الطريق لعبد الله الركيبي وهي حصة تحتفي بالأقلام الشابة في طريقها إلى البروز والانتشار وقد سمحت باكتشاف المواهب الشعرية والنثرية وسمحت لها بالبروز. وهل ينسى الجزائريون ومتابعو الفن السابع الحصة الأسبوعية نادي السينما لأحمد بجاوي؟ والتي كانت تبث يوم الثلاثاء حيث يقدم فيها فيلما شرقيا أو غربيا متبوعا بمناقشة لتنمية حاسة النقد لدى المشاهد وتبصيره بثقافة الفن السابع وقد اكتسبت هذه الحصة مشاهدين كثر حتى في القرى والبوادي نظرا لجدة الطرح وعمق المضمون ويومها كانت دور السينما يؤمها الجميع للتثقف والمتعة واليوم مصيرها الإغلاق للأسف البالغ، فأي مجتمع يمكن أن يتطور بلا سينما ؟ مع أن السينما الجزائرية عرفت تألقا عبر أفلام محمد لخضر حامينا وأحمد راشدي وغيرهما. وامتلك التلفزيون الجزائري جوقا وطنيا ارتقى بالذوق العام للجماهير عبر الوصلات الغنائية والحفلات الموسيقية التي كان يقدمها والأغاني الجيدة التي كان يقدمها شكلا ومحتوى مستفيدا من التقنية الحديثة ومن الآلات العصرية مع الحفاظ على الموروث الوطني ومازالت الذاكرة تحتفظ بأغان كثيرة لمت شمل العائلة واستمتعت بالفن ككلمات معبرة ولحن مشج وأداء راق معلية مستوى القبول الفني لدى الجماهير ومن المغنيات المتألقات آنذاك ثلجة ،سلوى، زليخة، ومن المطربين الكبار أحمد وهبي ورابح درياسة وأحمد راشدي وبلاوي الهواري وخليفي أحمد وعازف البيانو الشهير مصطفى إسكندراني والموسيقار نوبلي فاضل وكذا الراحل معطي بشير،وغيرهم وتسمع اليوم من يتحدث عن حرمة الفن بل ويؤلف في ذلك الكتب ولا يعني هذا إلا تدني ثقافة هذا العصر بالرغم من تطور تقنياته وحواسيبه وهواتفه الخلوية وكاميراته الذكية. ولا يأسف المرء مثل أسفه اليوم على انطفاء شعلة المسرح الجزائري الذي نال سمعة عربية ودولية في الثمانينات خاصة، هذا المسرح الذي عرف من قبل تألق محي الدين بشطارزي ومصطفى كاتب واسمرت شعلته على يد كاتب ياسين الذي تولى إدارة المسرح الجهوي لسيدي بلعباس وألف هو مسرحيات عرضت على الركح مثل "الرجل ذو النعل المطاطي" التي كتبت زمن حرب الفيتنام ،وازدهر كذلك على يد الراحل امحمد بن قطاف اقتباسا وترجمة وتأليفا وعبر نجومه الذين احتفى بهم المشاهد الجزائري أمثال صونيا وعز الدين مجوبي وزياني شريف عياد والراحل الكبير عبد القادر علولة واشتهرت مسرحيات نالت متابعة كبيرة وطنيا وعربيا مثل "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" المقتبسة عن الطاهر وطار و"الأجواد" و"العيطة" وغيرها. وهكذا ساهم هذه المسرح في حملة التثقيف والتنوير والنقد البناء واكتسب سمعة وطنية وعربية ودولية محترمة ومادام المسرح هو أبو الفنون فقد كرس فعلا في البلد ثقافة الحوار بدليل الليالي المشرقة بالمسرحيات المقدمة وعدد المتابعين والجوائز المتحصل عليها. نعيش اليوم في صحراء فكرية وفنية وثقافية لا حد لها وأعظم المنافي ما كان بداخل الإنسان وأفدح الخسارة ما مست روح الإنسان في جوهره وما جوهره إلا الفكر والحضارة وهذه الصحراء تكرس اليوم عزلتها بالرغم من التقارب الموهوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والحواسيب المتطورة والكاميرات الذكية كذلك وكلها تكرس ثقافة سطحية متدنية وتنويرا زائفا، كما تساهم الماضوية بعودتها الكاسحة في الردة الحضارية عبر تبديع الفنون وتفسيق الآداب وتكفير الفكر وتجريم التثاقف مادامت مرجعيتها هي القرن الأول الهجري ومادام التاريخ عندها ليس صيرورة بل سكونا وتجمدا عند مرحلة ترى أنها التمام والكمال وهذه الثقافة لا تنتج إلا مجتمعا أحاديا، نمطيا ،متكلسا، خضوعيا، وثوقيا يميل إلى نبذ وإقصاء المخالف له ، وفي ظل هيمنة التقنية والماضوية بلا مرجعية ثقافية جادة تعتني بالفلسفة والآداب والفنون لن ينتج لدينا إلا نصف إنسان . فهل أنا محق في الحنين إلى جزائر الثمانينيات؟
مشاركة :