فروغ فرخزاد أول شاعرة فارسية تتمرد على صوت السوط

  • 4/25/2022
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لم تأت الشهرة التي تحققت للشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد من فراغ، ولا مبالغة في اعتبارها واحدة من الشخصيات الأدبية الأكثر شعبية في إيران في القرن الماضي، فقد امتازت تجربتها الشعرية بخصوصية ميزتها عن مختلف التجارب الأخرى، إذ كانت نصوصها مفعمة بروح أنثوية إنسانية عالية فاتحة لأفق جمالي وفني خلاق، ما يحتم العودة إلى عوالمها الشعرية دائما. تأسست تجربة الشاعرة فروغ فرخزاد وارتكزت تجلياتها على التمرد والجرأة في التعبير عن توق الروح للحرية والحب والضوء، إنها تجربة تلتحم بروح صاحبتها وما واجهته في الحياة، الأمر الذي أعطى للمخيلة فضاء مترامي الأطراف تعتمل فيه كل المشاعر والأحاسيس والأحلام، لقد نسجت الشاعرة، التي لم تعش طويلا حيث توفيت إثر حادث أليم في عمر الـ32، رؤاها لما يعتمل بداخلها وما ينعكس عليها من الخارج بجرأة مختلفة تجاوزت وأضافت فيه للتجربة الشعرية السابقة عليها والمعاصرة لها. الأعمال الشعرية الكاملة للشاعرة فروغ التي ترجمتها وقدمت لها مريم العطار، تؤكد أن ما حصلت عليه فروغ من متابعة نقدية وجماهيرية واسعة لم يأت من فراغ، حيث قدمت تجربة مشحونة بالتحدي لكل ما يكبل ويقف حائلا دون تحقيق الذات والحضور الحر فيها، ولم تسلم من النقد والاستنكار العلني، سواء في حياتها أو في تلقّي أعمالها المنشورة بعد موتها، وقد أثر ذلك جنبا إلى جنب مع تقلبات حياتها من زواج وإنجاب وطلاق ومواجهة المجتمع الثقافي الذكوري على مسيرة تجربتها في الشعر خاصة والكتابة عامة. في تقديمها للأعمال أضاءت العطار جوانب مهمة في التجربة الشعرية لفروغ ثم رصدت تفاصيل سيرة حياتها، ونقلت مقدمة كتاب “أول نبضات حب لقلبي” للكاتب والمترجم والرسام عمران صلاحي والذي جمع فيه رسائل فروغ إلى زوجها برويز شابور. مريم العطار: فروغ قدمت تجربة مشحونة بالتحدي لكل ما يكبل ويقف حائلا دون تحقيق الذات والحضور الحر فيها الشاعرة المتمردة تذكر العطار “أتمنى أن يكون وجودي منفذا صغيرا يبث لحياتك الضوء والسعادة” وقد كتبت فروغ هذه الجملة في رسالة بعد انفصالها الرسمي عن زوجها وما كانت تعرف أن وجودها لم يكن منفذا بل نوافذ مشرعة سيفتحها العشاق ويتداولون ما كتبته في رسائلهم وخطاباتهم الغرامية، لكن على حد قولها “إبليس الشعر قد سحبها من يدها الملطخة بالحبر وبات الشعر عشا للطيور في يديها”. وتلفت العطار في مقدمة النسخة العربية من الأعمال الشعرية، الصادرة عن دار المدى، إلى أن فروغ بدأت مبكرة كتابة الشعر الغنائي بمواضيع رئيسية كشكوى بين المحبين أو معاناة امرأة شرقية تناجي الرجل الذاهب، الظالم، اللامبالي، وردا على ما قيل عن النوع الأول الذي كتبته قالت “إن الكلمات حتى وإن كانت أدوات الشاعر ليست مهمة بقدر المحتوى، وإن تكن المفردات مكررة إلا أنها فوران عشق كان مؤثرا بالنسبة إلي في تلك الحقبة”. فروغ لم تكن تهتم بمصطلح الشعر الحديث والقديم بل ترى الشعر هو ذاته في كل العصور، لكنه يختلف من جيل إلى آخر والفرق، فقط، في المسافات المادية بين العصور، فالشاعر الذكي يجب أن يواكب عصره ويتخذ من معاناة الفترة التي يعاصرها مصدر إلهام لإبراز طاقته على كشف الحقائق المختبئة وإشهار الظلم والزيف، كما تعتقد أن فعل الفن هو بيان لإعادة ترتيب الحياة، والحياة لها ماهية التغير والتوسع والنمو، بالنتيجة البيان أو الفن في كل فترة له روح خاصة به وإن كان عكس ذلك فهو مزيف ومقلد. تقول فروغ “إن عالمي، مثلا، يختلف تماما عن عالم حافظ الشيرازي. طريقة تلقي الشاعر والقارئ في فهم مفاهيم عدة كالعشق والشجاعة والمعتقدات تختلف عن الأمس”، وتذكر مثالا عن “مجنون” في الأدب “إن مجنون هو أيقونة للعشق وفداء المحبوب في قصائد العصور الماضية”، اليوم، على حد رأيها، تغيرت هذه الرؤية، فبتحليل الأطباء النفسيين شخص “مجنون” مريض يجب أن يكون تحت سيطرة في معاناة دائمة خاضعا للعذاب غير ساع للحرية. وترى العطار أن فرخزاد في الشعر تستخدم أقسى المفردات وأبشعها وتقول “إن كان وجود المفردات الصادمة ضروريا على الشاعر استخدامها حتى وإن لم تتداول كهذه المفردات في الشعر من قبل”، كما تؤكد “إن البلاغة ليست كافية، والشعر الحديث يجب أن يحتوي لسان عار رؤوف ومتجانس بكل اللحظات التي نعيشها”، كما تذكر أنها لم تسلم المفردات للزوائد، تذكر، أيضا “على الشاعر أن يكف عن كتابة المدح أو تقديم النصائح والمواعظ أو اتخاذ دور القائد والمرشد، الشعر الحديث خرج من قول الكليات وبات قريبا من الروح الإنسانية ومن الفن ذاته”، إذن.. هي، ومن خلال اكتشافها هذه الأسرار كما باستخدامها الحوار والمخاطبة في الشعر، خلقت نمطا جديدا في الشعر الفارسي آنذاك. ◙ في رأي الشاعرة البلاغة ليست كافية والشعر الحديث يجب أن يحتوي لسانا عاريا ومتجانسا مع ما نعيشه وحول ما عرفت به فروغ من كونها “شاعرة متمردة”، ومن أين جاء هذا التمرد، تشير العطار إلى قول فروغ في إحدى رسائلها لزوجها “لا أعرف أن ألجأ لمن كي أقتل الماضي، أنت يحييك الله في قلبي”، لم يكن التمرد يمنعها كي تخضع لحضن الحبيب وتخبره أنه نصفها الثاني، لم يكن التمرد ولا الشعر، الذي وصفته بآلة تمتص الدماء، مهمّا لها بقدر العشق، لكنه العشق ذاته في ديوانها الأخير بات سببا للدمار، إذن. الخذلان ومحاربتها كامرأة شاعرة صنعا منها متمردة لتحط رحالها مسرعة من مدينة إلى أخرى والقلم والورق يرافقانها لتنجز أكبر عدد ممكن من الدواوين في فترة حياتها القصيرة، ولن تنسى هذه المرأة عدد المبالغ المالية القليلة التي تحصلها من نشر الشعر في الصحف والمجلات لتوفير دراجة هوائية لابنها، أو لتشتري مفرشا من البلاستيك لتغطي أرضية بيتها الصغير، كأنها بيديها تريد التشبث بالحياة وتذوق طعم السعادة كأي امرأة عادية، ولم تحصل على قليل من تلك السعادة إلا في طيات الورق. وتوضح العطار أن شعر فروغ حظي بكثير من المقالات والتحقيقات بعدة لغات، ومن يكتشف عوالمها سيتعرف على أنثى ناضجة ملتهبة العشق مرة، ومنبوذة من البيت الزوجي مرة أخرى، وشعرها الحر المتمرد الذي كان حديث المثقفين والقراء مرات ومرات، وهي كاشفة عن الأقنعة في مجتمع بأناس فارغين متخمين بسعادات وهمية، وبالصدمات التي حفزت قواها استطاعت أن تؤثث عالما مختلفا بلغتها السلسة وأدواتها الخاصة وتركيب جملها الشعرية في مجتمع تعرف المرأة فيه فقط عن الرجل صوت السوط في النهار والاختباء تحت عباءة في الليل. تأتي فروغ الشاعرة تختار أن تركب المفردات لتكون قصيدة تعري الزائف أمام زيفه وأمام الملأ، فالتي تختصر عنوان مجموعتها الشعرية الأولى بـ“الأسيرة” تعي تماما في أي مجتمع تعيش وما مكانة المرأة فيه. سمة الفردية ◙ جوانب مهمة في التجربة الشعرية لفروغ تؤكد العطار أن فروغ أول امرأة في تاريخ الشعر الفارسي استطاعت أن تكتب بمطلق الحرية مستخدمة أقسى العبارات تطلقها دون الرجوع للعقائد المكتسبة الموروثة، بل تأخذها من صدى الطبيعة الخالصة في قلبها وحسها الوجداني وهذا النبع المتدفق الداخلي فيها خلق طرقا جديدة لهوية الشاعرة في الأدب الفارسي. في أولى مجاميعها الشعرية يدخل القارئ مغارات الفقد الغريب، الانتظار الموحش، الحب العذري المفعم بالعذاب الطويل، وفي مجموعتها الشعرية الأولى “الأسيرة”، ثم الثانية “الجدار” تجسد معاناتها في الأسر من وراء الجدار. ثم تدخل في نقطة تحول واضحة بعيدة عن التخيلات الشاعرية، فتضع “العصيان” عنوانا جديدا لمجموعتها الشعرية الثالثة تاركة حزن العبودية وخريف العقول لتدخل مملكة الشعر هنا من باب صريح قديم قدم الثورات التي تحصل لها ولمجتمعها. “العصيان” أدخل الشاعرة إلى عالم جديد بمجموعة رابعة بعنوان “ولادة أخرى”، العنوان واضح يظهر فكرا جديدا وتصويرا للهوية العامة، للحضور النسوي العام أمام مجتمع تقليدي حامل للمرأة الشاعرة أو المتمردة مطرقة الكفر والتحقير. لكنها ليست خاضعة له، وإن كسرها الحبيب بأخذ مولودها الوحيد تحاربه بتبني طفل وجلبه معها إلى البيت الأبوي، ليس هذا الموضوع بعيدا عن مهنتها كشاعرة بل الخلق الإنساني متجسد في كلا الجانبين. وتوضح العطار أن الفردية هي إحدى أهم النقاط التي تمتلكها الشاعرة في مجمل قصائدها، الصفات الإنسانية أيضا هدفها الصريح، فروغ بملامح قصائد جديدة مختلفة تجسد ثقل ما تعانيه تضع بولادة أخرى لمحة حزينة ساخرة من التاريخ بمضمون قصيدتها “أيها البلد الثمين”، هنا تعتلي رؤية الشاعر بحدود أكبر مما تناولته سابقا لكن الرجل مازال يتنفس ببطء في مفاصل قصائدها، وتحمل له عبارات جديدة غير خاضعة له هذه المرة. تتساءل “كيف يمكن للرجل الذي يعبر بثقل وصبر وصمت وضياع أن نأمره بالوقوف؟ وأن نقول له إنه لم يكن حيا أبدا!”، هذه المواجهة حقيقة وصادمة للرجل، تأتي بعد مرور أعوام بكل صراحة وبؤس لتبدأ بانتقاده في قصيدتها المعروفة “فلنؤمن بطليعة الموسم البارد” لتخبره أنه “يضعها تحت البحار والأسماك تأكل لحمها” وهي ربما إشارة للبشر الطماع، وهي التي “تكره الأقراط صدفية الشكل” أي متعلقات تلك الجماعات المستغلة. لدى فروع في هذه القصيدة مصارحة واقعية، فتذكر والدتها في الواقع إذ طلبت فروغ أن ترسل للصحف التعازي وتخبرهم بوفاتها، كما تذكر بقصيدتها معلنة أن كل شيء قد انتهى وقد فات الأوان. كما أنها نبوءة بالموت وتستقبله روحها الشاعرة قبل وفاتها بأيام على الأسطر بكل رحابة. وتؤكد العطار أن فروغ في ذلك العصر وسمت على جبين الورق هويتها كشاعرة ضد المتعصب والخانع والظالم والمتناقض ربما بكشف هذه الحقائق تجلى اسمها عاليا لتكون شاعرة لا تنسى الطير “ألا تنسى التحليق”، التحليق الذي أوصل صوتها لنا عبر مجموعتها الخمسة، “الأسيرة”، “الجدار”، “العصيان”، “ولادة أخرى”، “فلنؤمن بطليعة الموسم البارد”.

مشاركة :