تمثل الأحلام وعدم السيطرة على اللاوعي هاجسا لبعض الأشخاص الذين يبنون حاضرهم ومستقبلهم على الماضي، فيدخلون في دوامة نفسية سلوكية تقودهم نحو هلاك وشيك، يعيشون في محاولات يومية للخلاص منه. هذه هي الفكرة التي يطرحها المخرج آدم سيغال في فيلمه الجديد “العربة”. ما بين الطفولة والذكريات المخزنة في اللاوعي والعالم الغامض من الأحلام المتدفقة وكل ذلك العالم المجهول الذي تتراكم تفاصيله الغائرة وتبقى تنعكس على الوعي يمكن أن يلاحق الشخصية في ليلها ونهارها ويلقي ظلاله على تفاصيلها مهما حاول الابتعاد عن ذلك العالم الغامض الذي خلاصته مستودع اللاوعي وتدفقات الأحلام. هذا ما يقدمه كاتب السيناريو والمخرج آدم سيغال في فيلم “العربة” وهو يرافق الشخصية الرئيسية الشاب هاريسون (الممثل توماس مان) في مكابدته البسيطة والعفوية ولكنها الغائرة عميقا في ذاكرته وهو غير قادر على التخلص منها. فهو يشكو مثلا من تكرار حلم يراه في كل ليلة تقريبا وهو قد أحصى عدد المرات التي تكرر فيها ذلك الحلم آلاف المرات وأنه صار يكتشف من خلال ذلك السيل من الأحلام والذكريات السابقة تفاصيل مكانية لم يكن يعرفها من قبل. ☚ الفيلم يذهب بنا بعيدا في الأحلام والأزمنة والمستقبل ليقدم تراكما إشكاليا لشخصيات متأزمة تبحث لنفسها عن ملاذ وخلاص لكن المخرج يعود بنا مع المشاهد الافتتاحية إلى صورة رجل عجوز يعيش في بيت معزول في وسط طبيعة معزولة ويقوم بتقطيع الحطب وفي ذلك إحالة أخرى إلى إشكالية عبور الزمن مستبطنا لاوعي هاريسون في الانتقال إلى تلك البيئة المعزولة عله يجد نفسه هناك. هذا السؤال الإشكالي المركب ما يلبث أن يتجسد أمامنا مع انصراف هاريسون عن العيش مع والديه اللذين لم نعد نعلم عنهما شيئا وحيث يستمر في معاناته مع أحلامه وذكرياته وهو يبحث لنفسه عمّن يستمع إليه ويروي له مكنونات نفسه في دائرة معالجة نفسية لهواجس الشخصية كرس لها المخرج أغلب المساحة الفيلمية في تتبع شخصية هاريسون وفي ذات الوقت أظهر هامش البحث عن الذات بوصفه محورا أساسيا في تلك الدراما الفيلمية وفي سعي الشخصية للحصول على إجابات عما يتفاعل في داخلها. على أن التحول المهم الذي سوف نشهده في ما يتعلق بهاريسون هو لجوؤه إلى جلسات التحليل النفسي وصولا إلى التنويم المغناطيسي وذلك على يد الدكتور كارن (الممثل جون مالكوفيتش) الذي يعقد مع هاريسون جلسات عدة فيما يكون مظهره أقرب إلى مظهر وصورة باتمان كما أنه ليس طبيبا نفسيا فقط بل إنه شخصية إشكالية غريبة حيث لا نلمس ما يمكن أن يقوم به لغرض مساعدة هاريسون على استعادة التوازن المطلوب والخروج من دائرة القلق والتوتر التي يعيشها من دون أن يجد أذنا صاغية من أحد. يحاول الدكتور كارن إيجاد مفاتيح شخصية هاريسون وهو ما يسعى إليه وهو الذي يملي عليه أيضا تفاصيل ومواقف عليه أن يتبناها ولكن مع ذلك فإن الغموض يبقى هو سيد الموقف إذ لا يتيح لنا المخرج بما فيه الكفاية أن نتعرف على المسار الذي يتخذه ولا عن شخصيته طبيب نفسي بل بدا غريب الأطوار ومحاولا الاقتراب من عالم هاريسون الغائر والذي يصبح بالنسبة إليه لغزا محيرا وصولا إلى المشاهد الأخيرة التي ينتزع فيها الطبيب الشعر المستعار الذي كان يضعه على رأسه لتظهر حقيقة الشخصية. هذا الإطار الذي تحركت فيه الشخصية الرئيسية لم يكن كافيا ولهذا يوجد المخرج وكاتب السيناريو حبكة فرعية يتم من خلالها انتقال هاريسون للعيش في مبنى يبدو في تصميمه ومن يسكنه غريبا لينتهي في آخر المطاف إلى التعرف على ماريا (الممثلة روزا سالازار). ☚ المخرج لعب على وتر الجوانب النفسية – السلوكية من جهة وعلى الدوافع والحاجات النفسية ولامس لاوعي الشخصيات ☚ المخرج لعب على وتر الجوانب النفسية – السلوكية من جهة وعلى الدوافع والحاجات النفسية ولامس لاوعي الشخصيات تشكل علاقة الصداقة بينهما تحولا في مسار الدراما الفيلمية، فمن خلال ماريا يشعر هاريسون بكثير من الحرية والتدفق في التعريف بالذات وفي أن يروي ما يختزنه من أفكار ليكتشف أن ماريا هي نفسها ممثلة وتؤدي العديد من الشخصيات بشكل بارع ولهذا يجد فيها ملاذا متاحا للخوض في المتاهة التي هو فيها. في المقابل تبدو الأجواء التي تعيش ماريا من خلالها محملة هي الأخرى بجوانب غرائبية وخاصة من خلال الشخصيات التي تحيط بها وهو ما سوف يظهر بشكل واضح من خلال الحفلة التي تنظمها والتي سوف يتعرف من خلالها على فتاة أخرى غريبة الأطوار تتحول في سلوكها وردود أفعالها بين الحين والآخر. لعب المخرج على وتر الجوانب النفسية – السلوكية وعلى الدوافع والحاجات النفسية ولامس لاوعي الشخصيات محاولا أن يخرج هاريسون من أزماته في إطار معالجة متشعبة لم تخل من الغموض الذي زاده تعقيدا ما سوف يتعرض له هاريسون مما يشبه عملية اختطاف يكون من ينفذها ليس إلا الطبيب النفسي نفسه وهو يظهر بشخصيته الحقيقية، وهنا يلتبس الأمر أكثر بالنسبة إلى هاريسون اذ لم يعد يثق بذلك الطبيب النفساني على أنه منقذ له بل سقط في حلقة أخرى من دائرة الغموض. أما إذا انتقلنا إلى ماريا فهي نفسها على الرغم من الاقتراب من عالم هاريسون إلا أنها هي الأخرى ما تزال تعيش تعقيدات ذاتية. والحاصل أن الفيلم يذهب بنا بعيدا في الأحلام والأزمنة والمستقبل ليقدم تراكما إشكاليا لشخصيات متأزمة تبحث لنفسها عن ملاذ وخلاص بشكل ما بينما الحياة تزداد تعقيدا من حولها فيما هي ماضية إلى تلك النهايات المجهولة.
مشاركة :