الأدب العبري المؤسس صورة للهوية التائهة

  • 4/26/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الأدب العبري الحديث هو ذلك الأدب الذي كتب بالعبرية في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وتميز بنزعته العلمانية التي هدفت بالأساس إلى تثقيف الجماعات اليهودية في أوروبا ومن ثم تشابه شكلا ومضمونا مع الآداب الأوروبية. ويعكس هذا الأدب أبعاد الفكر الصهيوني وما بعد الصهيوني كما تجسدت في نماذج من الأدبيات العبرية الحديثة، كاشفة أن الأدب العبري الحديث، خاصة في مراحله الأولى، يرصد التغيرات الاجتماعية والتطورات الأدبية التي حدثت في المجتمعات الأوروبية التي عاش بها اليهود قبل استيطان فلسطين، فجاءت موضوعاته وأنماطه تتماشى مع معايير الآداب الأوروبية ومفاهيمها. في رصد لسمات الأدب العبري الحديث صدر أخيرا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار” كتاب “مختارات من الأدب العبري المؤسس (1890 – 1948)”، يقع في 386 صفحة، موزعة زمنيا وجغرافيا. الكتاب يرصد سمات الأدب العبري الحديث ويضيء الكتاب على أسئلة هوياتية واجتماعية متوترة في أوساط اليهود، ويشهد على تفاعلات سياسية حاسمة، تطورت إلى مشروع “إحياء قومي” بمواصفات كولونيالية، قادت الهجرات الاستيطانية إلى فلسطين، وتحول إلى ناظم لطبيعة العلاقة معها ومع أصحابها الأصليين. وقد اتسم الأدب العبري الحديث بمختلف أجناسه بالانفتاح والتأثر بالآداب الغربية الأوروبية سواء مع بدايات ظهوره في شرق أوروبا وغربها أو بعد انتقال مركزه الرئيس إلى فلسطين في مرحلة الهجرات، ويرجع ذلك إلى ارتباط أدبائه بالتقاليد الأدبية الأوروبية التي نشأوا في ظلها وتأثروا بمساراتها قبل تعاقب الموجات اليهودية على فلسطين من ناحية، وإلى تبني اتجاهات الثقافة الغربية/ الأوروبية كخطاب مركزي مؤسساتي في الفترة التالية لتأسيس الدولة من ناحية أخرى. وكان للأدب العبري الحديث تأثيره الملحوظ في تجسيد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للجماعات اليهودية في أوروبا، ومن ثم استغلالها كأحد المبررات الدعائية للحركة الصهيونية وطرح إقامة الدولة كمخرج وحيد لما يسمى بالمشكلة اليهودية آنذاك، وذلك في إطار سيطرة التيار الالتزامي كما صاغه الفرنسي جان بول سارتر في كتابه “ما هو الأدب؟” الذي يعتبر ما يكتبه الأديب وسيلة لخدمة أيديولوجيا محددة وليس فقط مجرد أداة للمتعة الجمالية. وقد تجسدت قيم الهيمنة الغربية في الحركة الصهيونية بوصفها ممارسة كولونيالية أوروبية قائمة على ثنائية الغرب/ الشرق في الأساس تتوجه إلى “الآخر” بخطاب استعلائي يتوافق مع الخطاب الكولونيالي الغربي، فعمدت إلى إقصاء الثقافات المغايرة ودفع أصحابها إلى الذوبان في الثقافة الأوروبية الأشكنازية السائدة، فنشأ خطاب ما بعد صهيوني (يتبنى مقولات ما بعد الكولونيالية) يقوض الفرضيات الصهيونية الرسمية وما تدعمه من التراتبية الهرمية للثقافات، وتعرض المواجهات الإشكالية بين الثقافات المحلية والثقافة الأشكنازية الرسمية. ويضم الكتاب ثماني روايات قصيرة وقصصا لكتاب مؤثرين في الأدب العبري الحديث، هي: “ابنة الحاخام” ليعقوب شتاينبرغ، “جانبا” لأوري نيسان جينسين، “مخيمان” لميخا يوسف برديتشفسكي، “خلف السياج” لحاييم نحمان بياليك، “بين ماء وماء” ليوسف حاييم برينر، “المعوج يصير مستقيما” لشموئيل يوسف عجنون، و”شفراه” لدفوراه بارون، إلى جانب رواية “جمعة الأهبل” لإسحاق الشامي الذي يعد حالة لها خصوصيتها، إذ اختار العبرية لغة لرواياته رغم أن سياقاتها وشخوصها وحبكاتها متصلة بالبيئة الفلسطينية حصرا. وتتوزع بيئات الروايات المختارة بين النموذج الأوروبي “الحضري”، كما في روايتي “جانبا” و”مخيمان”، والغيتو اليهودي المحافظ كما في روايتي “خلف السياج” و”ابنة الحاخام”، والمستعمرات اليهودية في فلسطين كما في رواية “بين ماء وماء”، وأخيرا بيئة الأصلانيين الفلسطينيين في رواية إسحاق الشامي “جمعة الأهبل”. الكتاب يضيء على أسئلة هوياتية واجتماعية متوترة في أوساط اليهود ويشهد على تفاعلات سياسية واجتماعية وثقافية حاسمة وتتعدد كذلك مشاغل الروايات، فيجد القارئ إضاءات على وضعية الغيتو بعيون نسوية في قصتي بارون وشتاينبرغ، وسبرا لسوسيولوجيا بيئة الاستيطان في فلسطين وهواجس المستوطنين الأوائل في رواية برينر، ومحاكاة أدبية لبيئة الاقتصاد السياسي لمجتمع يهود شرق أوروبا في رواية عجنون، وإيغالا في خبايا الذات اليهودية التائهة كما في روايتي جينسين وبرديتشفسكي، ومعاينة للبيئة البدوية الفلسطينية، بعيني إسحاق الشامي وبوعيه المركب من ذاكرة فلسطينية وتعاليم يهودية عبرية وواقع ما زال يتغير بشكل متسارع تحت ظرف الصهيونية. كتاب “مختارات من الأدب العبري المؤسس (1890 – 1948)” من تحرير هنيدة غانم، والباحث مالك سمارة، والباحث والناقد الأدبي أنطوان شلحت، وتقديم باسيليوس بواردي، وهو نتاج جهد مشترك لمجموعة من المترجمين والروائيين والباحثين الفلسطينيين، وهم (وفق ترتيب فصول الكتاب) علاء حليحل ومالك سمارة وريم غنايم ووسام جبران وحسن خضر. وبينت “مدار” في تقديمها لهذه المختارات أن الخلفية التي كانت واقفة وراء معظم تلك النصوص وكانت موضع اهتمامهم الرئيس وهم يختارونها، مكونة من عناصر شتى، غير أنهم ارتأوا أن يركزوا من بين هذه العناصر على اثنين، الأول؛ العنصر الذي بالوسع اعتباره بمنزلة بحث الكتاب اليهود عن “هوية جمعية جديدة”، ولاسيما في ظل مشروع سياسي لـ”الإحياء القومي” بمواصفات كولونيالية، مثلت عليه الحركة الصهيونية بسيل دعاواها المختلقة والمتوهمة. وكان السؤال الماثل أمام أصحاب الكتاب والذي حاولوا إيجاد جواب عليه هو: كيف تعاملت “النصوص التأسيسية” مع تلك الدعاوى، وبالأساس مع ما رددته أدبيات الصهيونية التي ارتأت الاستيطان خلاصا لليهودي وحثته على الهجرة إلى فلسطين؟ أما العنصر الثاني فهو محاولة النفاذ من خلال النصوص المختارة إلى تفاصيل الواقع الاجتماعي الذي عاصر الصهيونية في بواكير دعاواها تلك، وفي ما يعرف بهجراتها الأولى إلى فلسطين. وقد تولت المقدمة العامة لهذه المختارات وكلمات التقديم لكل نص من نصوصها مهمة استخلاص الاستنتاجات في ما يرتبط بهذين العنصرين تحديدا، وكذلك بعناصر أخرى على غرار علاقة بعض الكتاب بالمجتمع الأصلاني، سواء لناحية الإنكار في أغلب الحالات، أو لناحية التعايش معه في حالات نادرة واستثنائية.

مشاركة :