في الساعات التي سبقت بدء القوات الروسية غزوها لأوكرانيا في 24 فبراير 2022، شنت «موسكو» هجومًا ضارا لم يسبق له مثيل، باستخدام برامج تسمى (ماسح) «wiper» يمكنها حذف الكثير من الملفات من دون ملاحظة ضد الوزارات والمؤسسات المالية في «كييف»، فيما يُعرف باسم هجمات الـ«DDoS» أو «الحرمان الموزع من الخدمة»، والتي يتم فيها زيادة التحميل على البنية التحتية لشبكات الكمبيوتر بغرض تعطيلها. وكانت هذه هي الهجمة الأبرز في سلسلة الهجمات من هذا النوع، من قبل جهاز المخابرات العسكرية الروسي. ومن ثمّ، أعادت الحرب في أوكرانيا قضية المخاطر التي تواجه الأمن السيبراني، واحتمالية وقوع هجمات إلكترونية ضد الغرب في المستقبل إلى الواجهة. ومع ذلك، أعرب العديد من المحللين عن دهشتهم من النطاق المحدود حتى الآن للعمليات الإلكترونية الروسية خلال هذا الصراع. وأشار السيناتور الأمريكي «مارك وارنر» إلى أن عدد الهجمات الإلكترونية التي حدثت حتى الآن في أوكرانيا، بما في ذلك هجمات يوم الغزو، «معتدل نسبيًا»، بالمقارنة مع ما كان متوقعا من موسكو. وعلق «كريس بينتر»، المنسق السابق لقضايا الإنترنت في «الخارجية الأمريكية»، قائلاً: هناك «تعجب أننا لم نشهد استخدامًا أكبر للإنترنت» في الصراع، فبالرغم من أن الحرب مستمرة، ومع «احتمالية أن هناك حديثا عن استخدام روسيا الأسلحة الكيماوية»، إلا أنهم لم يشنوا هجمات إلكترونية «بمستوى التعقيد الذي تتمتع به ترسانتهم السيبرانية». وأشار «كياران مارتن»، الرئيس السابق لمركز الأمن السيبراني الوطني البريطاني، إلى أنه «رغم التوقعات باختراق روسي كبير للبنية التحتية الأساسية للإنترنت في أوكرانيا»، فإن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع حتى الآن. ويعد الغياب النسبي لمثل هذه الهجمات مفاجئًا، نظرًا إلى تاريخ روسيا في شن هجمات إلكترونية ضد أوكرانيا، بما في ذلك هجوم «NotPetya» الشهير في 2017، والذي تسبب في اضطرابات كبيرة في البنية التحتية بما في ذلك المطارات، والسكك الحديدية، والبنوك. ورأى «ديفيد سانجر»، و«جوليان بارنز»، و«كيت كونجر»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن «هذه الهجمات أعطت روسيا سمعة كواحدة من أكثر القوى السيبرانية عدوانية ومهارة». ومع ذلك، بحسب «لينارت ماشماير»، من «المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا»، فإن العمليات السيبرانية المسجل حدوثها مؤخرا «لا يبدو أنه جرى الإعداد لها طويلاً، وتبدو عشوائية». وفي خضم هذه السيناريوهات، أوضح «مارتن» أن عدم وجود هجمات واسعة النطاق على البنية التحتية للاتصالات قد يعني أن الوحدات الروسية تعتمد جزئيًا على الشبكات الأوكرانية نفسها. في حين استنتج «سانجر»، و«بارنز»، و«كونجر»، أن الروس ربما حاولوا شن هجمات أكثر طموحًا، «لكن الدفاعات كانت أقوى مما توقعوا». ورأى «بينتر» أيضًا أن فائدة الهجمات الإلكترونية محدودة، مقارنة بالقوة العسكرية التقليدية الآن بعد أن بدأت الحرب، قائلاً: «لا تحتاج إلى الإنترنت كثيرًا عندما يكون لديك دبابات وطائرات على الأرض». وتوقعًا لانتصار عسكري سريع، ربما كان «الكرملين» يخشى أن يتسبب الإضرار بالبنية التحتية المدنية في مشاكل للحكومة الموالية له التي أراد تنصيبها في كييف. وعلى الرغم من عدم وجود هجمات واسعة النطاق حتى الآن؛ فقد زاد عدد الهجمات التي تم شنها ضد أوكرانيا بشكل كبير. وحذر «وارنر» من أن عدم وجود هجمات واسعة النطاق حتى الآن لا يمنع «احتمالية» حدوثها في المستقبل، مشيرا إلى أن قادة العالم يجب أن يظلوا يقظين حال حدوث تطورات أخرى في هذا الشأن. فيما حذر المحللون أيضًا من أن الهجمات السيبرانية التي نُفِّذت في أوكرانيا يمكن أن تؤدي إلى تصعيد التوترات بشكل أكبر من الوضع الحالي. وعلق «جون ثورنهيل»، في صحيفة «فاينانشيال تايمز»، بأن «أحد أكثر المخاوف الناشئة عن الصراع» هو «إمكانية أن يتصاعد إلى مواجهة عالمية غير مرئية في الفضاء الإلكتروني». علاوة على ذلك، أوضح «وارنر» أن «هجوما سيبرانيا واسع النطاق» من شأنه أن «يخرج عن الحدود الجغرافية لأوكرانيا» إلى شرق بولندا، محذرًا من أنه إذا تم «إغلاق» المستشفيات البولندية، ومات الناس نتيجة لذلك الاختراق، فقد يكون لهذا تداعيات خطرة. وبالمثل، أشار «بينتر» إلى أن الديمقراطيات الغربية لم تشهد أي «انتكاسة» حتى الآن. وأوضح «أليكسي درو»، من مؤسسة «راند»، أن «هناك تاريخا من الهجمات الإلكترونية التي تجاوزت النطاق المفترض لتأثيرها»، مشيرًا إلى هجوم «NotPetya»، الذي تسبب في خسائر بقيمة 7.5 مليارات جنيه إسترليني في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، حذر باحثون من أن «الرد السيبراني» قد يكون «الإجراء الروسي المضاد المحتمل» لمواجهة العقوبات الغربية، حيث إنهم لن يتمكنوا من الرد من خلال «أدواتهم الاقتصادية». ولتوضيح التداعيات المحتملة على الدول الغربية التي تستهدف موسكو بالعقوبات، استهدفت الجماعات الإجرامية الروسية ببرامج الفدية المستشفيات الأمريكية، وشركة تدير خطوط أنابيب الغاز على الساحل الشرقي للبلاد العام الماضي. وقد يكون «بوتين» مستعدًا بالفعل لاستخدام هذه الجماعات في المستقبل؛ نظرًا إلى درجة التمويه التي يوفرها له افتقارها إلى وجود صلة رسمية تربطها بالحكومة الروسية. وفي السياق ذاته، أوضح «وحيد بهزادان»، من «جامعة نيو هافن»، أن هناك «تاريخًا طويلاً من القراصنة الروس المنخرطين في هجمات ضد كيانات غير متحالفة مع الحكومة الروسية»، لذلك من الممكن حدوث تنامي لمثل هذه الأنشطة في المستقبل القريب. ومع ذلك، أشار «جريج راتراي»، من «جامعة كولومبيا»، إلى أن الروس لم يسمحوا بعد لمجموعات برامج الفدية هذه بأن تصبح أكثر نشاطًا «بطريقة ملحوظة». ومن التطورات الأخرى الملحوظة في مجال العمليات الإلكترونية منذ غزو أوكرانيا زيادة النشاط السيبراني من قبل الجهات الفاعلة غير الحكومية والمجموعات التطوعية. ولاحظ «كايل فيندورف»، و«جيسي ميلر»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، كيف إن أوكرانيا «اتبعت استراتيجية فريدة في الفضاء الإلكتروني؛ في محاولة لتعبئة المشاعر الدولية، وإنشاء جيش من المتخصصين في الأمن السيبراني لمهاجمة الأهداف العسكرية والبنية التحتية الحيوية في روسيا». كما أشار «لوتيم فينكلشتاين»، من شركة «تشيك بوينت سوفتواير تكنولوجيز»، للأمن السيبراني، إلى أنه «لأول مرة في التاريخ، يمكن لأي شخص الانخراط في حرب»، وقد أدى اندلاع الصراع في أوروبا الشرقية إلى «مشاركة المجتمع السيبراني بأكمله، حيث الجماعات والأفراد انحازوا إلى جانب، إما روسيا وإما أوكرانيا». ووفقًا لـ«وولمان»، تُقدر السلطات الأوكرانية عدد المتسللين الذين تطوعوا لمساعدتها بنحو 400.000، ما يوضح حجم هذا الاتجاه. وقيم الباحث أن هؤلاء المتطوعين «على مستوى القاعدة» قد «أحدثوا اضطرابًا واسع النطاق»، بما في ذلك كتابة رسائل مناهضة للحرب على وسائل الإعلام الروسية، وتسريب البيانات من عمليات القرصنة المتنافسة». وفيما يتعلق بمكافحة النشاط السيبراني الضار المحتمل من روسيا، كان الدور المتزايد للتعاون بين القطاعين العام والخاص في مجال الأمن السيبراني جديرًا بالملاحظة في أعقاب الغزو. وكما أوضح الجنرال «بول ناكاسوني» قائد القيادة الإلكترونية الأمريكية، فإن «الأمن السيبراني هو معزوفة جماعية؛ فنطاق المشكلة وحجمها أكبر من أن تعالجها أي منظمة بمفردها». وعلى سبيل المثال، كما أفاد «سانجر» و«بارنز» و«كونجر»، ففي غضون ثلاث ساعات من هجوم البرامج الضارة «الممسحة» -المذكور أعلاه- ضد أوكرانيا، قامت «مايكروسوفت» بتحديث أنظمة الكشف عن الفيروسات الخاصة بها لحظر الكود والحدّ مما يُمكن أن تسببه من ضرر. ويعتقد العديد من المحللين أن الحرب في أوكرانيا «اختبار ضغط» للشراكات بين القطاعين العام والخاص التي تم تطويرها في الحكومات الغربية، والتي كان أداؤها جيدًا حتى الآن. وقال «توم بيرت»، من شركة «مايكروسوفت»، في إشارة إلى جهود شركته للتنسيق مع الحكومات الغربية: «إننا نقوم في غضون ساعات بما كان سيستغرق أسابيع أو شهورًا، بل بضع سنوات». كما اعترف «بينتر» بأن «القطاع الخاص قد قدم الكثير، حتى منصات التواصل الاجتماعي في إزالة المحتوى». كما تم تشكيل شراكات جديدة بين القطاعين العام والخاص استجابة للأزمة، مثل شراكة الحكومة الرومانية مع شركة الأمن السيبراني الرومانية «بيت دفندر» لتقديم دعم تقني مجاني لكل من الحكومة والشركات الأوكرانية. علاوة على ذلك، برز التعاون الدولي لمكافحة النشاط السيبراني الضار في كل من التحضير للغزو وبعده مباشرة بشكل قوي. وسلطت «جويس حاكمه»، و«إستير نايلور»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، الضوء على كيفية نشر فريق الاستجابة السريع للهجمات الإلكترونية التابع للاتحاد الأوروبي ومقره في ليتوانيا «لأول مرة منذ إنشائه»؛ لمواجهة هذه التهديدات. وأشارت «جيسيكا براندت»، من مؤسسة «بروكينجز»، إلى مشاركة البيت الأبيض في تعاون «مايكروسوفت»، مع الحكومات الأجنبية، باعتبارها «مثالًا مهمًا على التعاون الفعال بين الشركات والحكومة وبين الحلفاء». وعليه، أوضحت «حاكمه» و«نايلور» أن «التضامن الذي تم إظهاره حتى الآن غير مسبوق وشهادة على فوائد وإمكانات العمل الجماعي عبر القطاعات والمجتمعات». على العموم، فاجأ غياب الهجمات الإلكترونية الواسعة النطاق على البنية التحتية الأوكرانية العديد من المحللين الغربيين، نظرا لمركزية مثل هذه العمليات لدى الاستراتيجية الروسية. ومع ذلك، شهدت الفترة التي سبقت الغزو تزايدًا حادًّا في النشاط السيبراني الضار من موسكو، على الرغم من أن أهم ما يمكن استخلاصه من ذلك هو فعالية الاستجابة الغربية لهذه التهديدات، والتعاون والتنسيق القوي بين المؤسسات الغربية والحكومات وشركات القطاع الخاص، بعد سنوات من التطوير والتخطيط للطوارئ. بالإضافة إلى ذلك، سلط الصراع الضوء مرة أخرى على الدور المهم الذي يمكن أن تلعبه الجهات الفاعلة غير الحكومية داخل الفضاء الإلكتروني، حيث تم حشد الجماعات الناشطة والمتطوعين من قبل الحكومة الأوكرانية، في الوقت الذي استمرت فيه «موسكو» في تسهيل انتشار البرامج الضارة من قبل الجماعات الروسية.
مشاركة :