تخيّل أن تقود سيارتك خارجاً من مدينتك لمدينة أخرى، ثم تنتبه لمؤشرات لوحة التحكم فترى البنزين شبه فارغ، وحرارة المحرك مرتفعة ومؤشر الإطارات يشير إلى انخفاض كبير في نسبة الهواء في أحدها، هل ستكمل طريقك متجاهلاً ما ترى أم ستقف عند أول محطة وقود لإصلاح ما ظهر أنّ به مشكلة قد تتسبّب بتعطل سيارتك في منتصف الطريق أو قبل ذلك؟ طبعاً العقل يقول إنك ستتوقّف، لأن المؤشر لا يكذب، ولأنّ الإصلاح المبكر للخلّل أفضل وأقل كلفة من تركه حتى يكبر ويصبح مكلفاً أو عصيّاً على المعالجة، والأمر يبدو مماثلاً في حياة البشر أيضاً وتجمعاتهم الإنسانية المختلفة، فالخلل متوقع، والقصور حدوثه طبيعي، وشكوى الناس ليست خللاً في الغالب ولكنها ردّة فعل لخللٍ قائم يحتاج تدخل من يملك الحلول. في المؤسسات الربحية لن تجد شركة جيدة تُهمِل شكاوى عملائها أبداً، ولن تنظر لهم نظرة شك أو مثيري مشكلات، بل ستؤخذ تلك الملاحظات والشكاوى مهما كانت شدّتها بمحمل الجدّ لتحسين المنتَج، لكي يرضى ذاك العميل ويتم إشعاره وبقية العملاء بأنّ الشركة تهتم كثيراً بما يؤرق تعاملهم معها، وأنها تسعى دوماً لعمل ما يتوقعون منها إن لم تسعى للتفوّق عليه، لذلك يقول أحد أهم رجال الأعمال وهو بيل غيتس: «إنّ زبائنك الأكثر غضباً من منتجاتك هم أكبر مصدر للتعليم لك»! تقول الحكمة القديمة: «البيوت السعيدة لا صوت لها»، وهذا صحيح لكنّه ليس دائماً، فأحياناً لا يخرج صوت لأن البيئة أصبحت مشوّشة لدرجة أن كل نصيحة تعتبر طعناً، وكل شكوى هي محاولة إثارة، وكل ملاحظة على إجراء ينظر لها البعض وكأنها تشجيع على مخالفة اللوائح والأنظمة، فأصبح الوضع حسّاساً بصورة غير مسبوقة، وبات البعض يوزّع صكوك الوطنية حتى على الشكاوى من الإجراءات، رغم أنّ كل مجتمع من حقه أن يبدي ملاحظته على ما يتعلق بحياته اليومية بالطرق المتعارف عليها، فالعلاقة بين أفراد المجتمع والمؤسسات الخدمية تفاعلية، ويجب أن تبقى دوماً قابلة للأخذ والرد حسب مصالح الناس، ولم نسمع من قيادات البلد إلا التأكيد أنّ الإنسان هو الأهم وأنّ التخطيط دوماً لتسهيل أمور حياته وإسعاده. لا يجوز أن يقف البعض «حزا وزا» للناس الذين يشتكون من أمور تتعلق بحياتهم اليومية، فلن ينطق إنسان سوي إلا مما يؤرقه أو ينغّص عليه وعلى عائلته أمورهم، وليس من حقي إن كانت حياتي رغيدة أن أحاول إسكات من يريد إيصال صوته، وهو صوت أحياناً يخرج على استحياء ولكنّه بيّنٌ لمن يُمعِن النظر، فما أكثر تلك الرسائل التي تتناقلها مجموعات الواتساب عن ملاحظة معينة أو شكوى، والتي يبدو أن تمريرها والتفاعل معها حتى ولو بصورة «ايموجي» تعني أنّها تمس حياة الكثيرين وتشكل إزعاجاً لهم. لا تنظر للدنيا من منظورك فقط، فما قد يُناسِب ظروفك أو أفكارك قد لا يناسب غيرك أبداً، وصالح المجتمع مُقدَّمٌ على صالح الفرد دوماً، وقد قال المفكر الأمريكي ايدموند ويلسون يوماً: «لم يحصل أبداً أن قرأ شخصان نفس الكتاب»، فلا تُجبِر الناس بقناعاتك، ولا تتحدّث نيابة عنهم أو تحاول غمز من «يفضفض» عمّا يواجهه، فليس الكل يعرف السبيل لإيصال الملاحظة أو حل المشكلة، ولو لم تكن قد أمضّته ما تكلم عنها، كما قالت شاعرتنا عوشة، رحمها الله: «ماحدٍ يشكي ويبكي من البطر»! فضفضة الناس وما يدور في مجالسهم بل وحتى قفشاتهم ونُكاتهم في بعض الأحيان تتحدّث عما تنوء به كواهلهم، والمدير والمسؤول إنْ أراد أن يعرف حقيقة الوضع يجب أن ينزل بنفسه ويرى ويسمع دون وسيط ينقل له الأمور، فما أكثر المعلومات التي تصل مغلوطة أو منقوصة أو مُعدّلة، وما أكثر النفوس الصادقة التي يطعن بها المزايدون لمجرّد أنها تئن مما يزعجها أو يشقّ به أمر معيشتها، لو كان لهؤلاء المزايدين على وطنية الناس من أمر لقاموا بخلع كل مؤشرات السيارة حتى لا تشير لمعلومة سيئة! * كاتب إماراتي طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :