يعد نطاق الحكومة وحجمها في الحياة الاقتصادية من أهم الموضوعات التي تتناولها النقاشات العامة بشأن السياسات. ويتمثل التطور الأكثر إثارة للدهشة على الإطلاق في النمو الضخم لحجم الحكومة في الاقتصادات المتقدمة خلال القرن الـ 20. فقد ازداد حجم الحكومة مقيسا بنسبة الإيرادات الضريبية إلى الدخل القومي من أقل من 10 في المائة في بداية القرن الـ 20 إلى مستويات تراوح بين 30 و50 في المائة بحلول عام 1980. وفي فرنسا والسويد والمملكة المتحدة والولايات المتحدة كانت نسبة الضرائب أقل من 10 في المائة حتى الحرب العالمية الأولى، وارتفعت حتى أواخر السبعينيات، وظلت مستقرة بدرجة كبيرة بعدها. ويختلف التوقيت والمستويات النهائية عبر الدول، حيث استقرت النسبة عند 50 في المائة تقريبا في فرنسا والسويد، و30 في المائة تقريبا في الولايات المتحدة، و40 في المائة تقريبا في المملكة المتحدة. ما الذي تفعله الحكومات الآن بهذه الإيرادات الضريبية الضخمة ولم تكن تفعله في الماضي؟ حتى أوائل القرن الـ 20 وجهت أوروبا الجزء الأكبر من الإنفاق الحكومي إلى ما يسمى السلع العامة الملكية، مثل القانون والنظام العام، والدفاع الوطني، والإدارة، والبنية التحتية الأساسية. في المقابل، يعزى نمو الحكومة بالكامل تقريبا خلال القرن الـ 20 في الاقتصادات المتقدمة، إلى نمو دولة الرعاية التي توفر التعليم والرعاية للأطفال، والرعاية الصحية للمرضى، والمزايا التقاعدية لكبار السن، إلى جانب مجموعة كبيرة من برامج دعم الدخل لأصحاب الإعاقات والعاطلين والفقراء. ويعني ذلك أن دولة الرعاية توفر الدعم في الأساس لغير القادرين على إعالة أنفسهم. تشكل دولة الرعاية معضلة بالنسبة للنموذج الاقتصادي المعتاد القائم على الأفراد العقلانيين من أصحاب المصلحة الذاتية الذين يتفاعلون معا خلال الأسواق. وحسب هذا النموذج، يفترض أن يكون الأفراد العقلانيون في الاقتصاد السوقي بما يتضمنه من أسواق ائتمانية عالية الأداء قادرين على تدبير أمورهم إلى حد كبير. ويمكن للصغار أو والديهم الاقتراض لسداد مصروفات تعليمهم إذا ثبت أنه استثمار مجد. وتمثل الرعاية الصحية سلعة خاصة في الأساس يمكن للفرد شراء تأمين من أجل الحصول عليها. ويمكن للعمال الادخار لمرحلة التقاعد، نظرا لأن قدرتهم على العمل ستتراجع مع تقدمهم في السن، وأخيرا يمكن للفرد استخدام مدخراته في حال الفقدان المؤقت للدخل، كالبطالة على سبيل المثال. غير أن هذا الحلم الاقتصادي لم يتحقق إلا في واقع النخب الثرية التي استطاعت تحمل نفقات المعلم الخاص لتعليم الأبناء، والطبيب الخاص للحصول على خدمات الرعاية الصحية، واستخدمت ثرواتها لتغطية احتياجاتها عندما تقدم بها العمر. وعجز معظم السكان عن توفير النفقات اللازمة للحصول على خدمات التعليم والرعاية الصحية عالية الجودة واضطروا إلى مواصلة العمل بعد أن تقدم بهم العمر أو اعتمدوا على أبنائهم لإعالتهم. لذلك تقدم دولة الرعاية لجميع سكانها في العصر الحديث خدمات التعليم عالي الجودة والرعاية الصحية وإعانات التقاعد التي لم يكن سوى بمقدور النخبة تحمل نفقاتها في السابق. وعموما يبدو الأمر، كما لو كان الفرد في العصر الحديث قد قرر إضفاء صفة الاشتراكية على رعاية الأطفال وتعليمهم والرعاية الصحية للمرضى والإعانات الاقتصادية لكبار السن والمجموعات الأخرى غير القادرة على العمل، مثل أصحاب الإعاقات والعاطلين. لكن ما السبب، وكيف نشأ هذا المفهوم؟... يتبع.
مشاركة :