الأدب النفيس هو ذاك الذي يحتمل قراءات جديدة مع مرور السنوات، ويغتني بِما هو جديد بالنسبة للأجيال القادمة على مر الزمن. تُعدّ مسرحية "سوء فهم" للفيلسوف والأديب الفرنسي ألبير كامو من هذا الأدب النفيس، إذ تبيِّن بأن الشر لا مستقبل له، وأنّه في النهاية لابدّ أن يعود إلى صاحِبه فيدفع ثمن هذا الشر. لقد أدان ألبير كامو كافة ألوان الاضطهاد بحق الإنسان مهما كان شكله، ومهما كان منبعه، وإذا قرأنا مجمل أعمال هذا الفيلسوف الإنساني الكبير، نرى بأنها تدور حول حرمة اعتداء الانسان على الإنسان، وأن هذا الإنسان فقط عندما يُقدِّم الزهورَ لأخيه الإنسان يكونُ قد مارَسَ إنسانيته وسما بها، بَيد أنه عندما يُقدّم الألم أو القسوة لأخيه الإنسان، فإنه وفق كل المقاييس الإنسانية يكون قد تجرَّدَ من مقوّمات إنسانيته. يجلو لنا ذلك في أعماله الفكرية، والفلسفية، والروائية، والمسرحية، كما يجلو في سلسلة المقالات التي كتبها. سوف أقدّم هنا وجهة نظر كامو في عملية اعتداء الإنسان على الإنسان من خلال مسرحيته "سوء فهم" وهي مسرحية خالدة قابلة للقراءة في أي زمانٍ ومكان. يرى كامو في هذه المسرحية أن الإنسان في اللحظة التي يَقدم فيها على الاعتداء على أي إنسان كان سواء أكان قريباً، أو غريباً، فإنه في ذات اللحظة يَقدم على الاعتداء على نفسه. إنها مسرحية تحذيرية وإنسانية هامة، تَناوَلَ كامو فكرتها بأسلوبٍ تشويقيٍممسرح، وقد شاهدتُ هذه المسرحية تتحوَّلُ إلى فيلم مصري قامت ببطولته الفنانة (سناء جميل) التي قامت بدور الأم التي تملك فندقاً تديره مع ابنتها، وهما كلما ينزل عندهما شخص ثري للإقامة، تقومان بقتله من أجل السطو على أمواله. وذات مرة يقرر ابنها المغترب أن يعود إلى البيت، ويريد أن يجعل عودته مفاجأة لأمه وأخته، ولذلك لايخبرهما بعودته. عندما يصل الفندق، يحاول أن يواري عنهما شخصيته، فيأخذ غرفة، وعندما تدرك الأم بأن النزيل هو مغترب ويحمل ثروة، تُخطط لقتله من خلال تقديم إبريق من الشاي المسموم، تقدمها إليه أخته في غرفته. وهنا تبدأ المرأتان في انتظار أن يأخذ السم مفعوله، وبالفعل يحدث ذلك، فتتقدمان إلى الغرفة وعندماتدخلانها، تكون المفاجأة المرعة بالنسبة لهما عندما تكتشفان بأنهما هذه المرة قاما بقتل الابن، والأخ الوحيد، فلا تحتملان الموقف وهما يرددان: (الحياة أقسى منا جميعاً) وتقدمان على الانتحار. على هذا النحو ينال الشر من صاحبه، فيعاقب الشريرُ ذاته بذاته كما أراد كامو أن يعبر في هذا العمل المسرحي. فالشر في هذه المسرحية مهما طال أمده، فإنه لابد أن يأتي يوم ليفني نفسه بنفسه ويأكل بعضه بعضاً.وهنا بدا العِقابُ من نفس جنس الشر، وعلى الأغلب هذا ما يحدث إذا نظرنا إلى نهايات أهل الشر، وقد انتهت المرأتان هنا بقتل نفسَيهما، ولكن قبل ذلك شاهدتا وعاشتا قسوة ورعب الاعتداء على الآخرين. والمسرحية تُذكّر المعتدي بأن الذي يُعتدى عليه له أم، وله أخوات، وله أبناء، وعلاقات اجتماعية، وما إلى ذلك. إن هذه النزعات الإنسانية التي اتسم بها فكر ألبير كامو بصورة عامة، تجعل أعماله تتمتع بشعبية واسعة من جيلٍ إلى جيل، وهي التي حقَّقَت لصاحِبها جائزة نوبل للآداب.
مشاركة :