الأبعاد الوجودية في مسرحية «سوء تفاهم» لألبير كامو

  • 7/21/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

مسرحية (سوء تفاهم) للكاتب الفرنسي من اصل جزائري البير كامو تحكي قصة امراة وابنتها لديهما فندق يقومان بقتل المسافرين النزلاء وسرقة نقودهم ورميهم بالنهر، ولدى هذه الام ابن تركها منذ سنوات يقرر العودة لمدينته هو وزوجته بعد ان جمع المال ولانه اراد ان يحدث مفاجأة لامه واخته قرر عدم الكشف عن هويته ويستأجر غرفة بذلك الفندق، وطبعا تقوم الأم وابنتها بقتله، وبعدها يكتشفان هويته ولكن بعد فوات الاوان فتقرر الام الانتحار وتفعل الاخت (مارتا) الشيء ذاته، ان مسرحية سوء تفاهم مسرحية ترتكز على ثلاث شخصيات رئيسة هي الام والاخت والابن ولكن اكثر تلك الشخصيات تصدراً هي (الاخت /مارتا) لان البير كامو مرر من خلالها اغلب الافكار الفلسفية التي يؤمن بها وهذا يتضح من جميع حوارات الاخت مارتا وباختصار يمكن القول ان سوء تفاهم جاءت نتيجة لما اتخذه الابن من قرار من عدم كشف لهويته الحقيقية فلو قال منذ البدء ها انا لما حصل الذي حصل والمسرحية من ثلاث فصول في كل فصل العديد من المشاهد اعتمد خلالها البير كامو على وحدتي الزمان والمكان رغم ان كتاب العبث واللا معقول والتيارات المقاربة قد عمدوا لكسر تلك الوحدات الا ان كامو التزم بهما في هذه المسرحية فالزمان 24 ساعة تبدأ احداث المسرحية ظهرا وتنتهي صباحاً والمكان (الفندق) فقط اراد من خلال هذا المكان ان يقول ان الفندق هو مكان منغلق ويعبر بهذا عن صورة عالمنا لان الشخصيات المسرحية لا تخرج من هذا المكان الا للقاء الموت فالام ومارتا لا تخرج عتبة الفندق الا لقتل المسافرين او إلقائهم في الترعة وهذا جزء من فلسفة كامو ورؤيته لهذا العالم بانها عالم مغلق وخانق وكذلك ضمن كامو العديد من الافكار الوجودية في مسرحيته فتقول مارتا« مارتا: ذلك انني ابتسم في غرفتي في الساعات التي انفرد فيها بنفسي» ان العزلة ومقت المجتمع واحد من الامور التي اكدت عليها الفلسفة الوجودية، وسيتضح هذا الامر في حوارات اخرى، ومنها القاء الملامة على العالم والحياة فيما يجري في هذا الوجود. فتقول الام: «الام: ان الحياة اقسى منا ظاهريا حقا ربما يصعب علي لهذا السبب ان اشعر بالاثم» ان احد المفاهيم التي اشاعتها الوجودية هو القلق وخصوصا لدى كامو فهو يرى انه ما ان تفكر بالسعادة فانك ستعرض نفسك للقتل وهذا ما حصل مع الابن يان فهو يقول «يان: لقد جئت الى هنا لاقدم ثروتي وشيئا من السعادة اذا استطعت» وفعلا كان مصير يان هو القتل ان مسرحية سوء تفاهم يغلب عليها الحوارات الفلسفية القصيرة ان اختيار الانسان في هذا الوجود لمصيره تأتى عبر رؤية الام لابنها فهي تقول: «الام: لما حدثته عن يدي؟ مع ذلك لو انه نظر اليهما لربما فهم ما قالته له مارتا فهمه. ورحل ولكنه لا يفهم ولكنه يريد ان يموت» ان كامو هنا يؤكد على اختيار الفرد للموت بوعي وارادة كما حصل مع يان فهو لو لاحظ طريقة تعامل الام والاخت معه لما ذهب الى الموت ومن المفاهيم الوجودية التي برزت على لسان مارتا هو حوارها الاتي: «مارتا: انت يا من جئت بي الى الوجود في بلد كله سحاب بدلا من ارض مشمسة» فالوجودية ترى ان الفرد القي في هذا العالم وترك لمواجهة مصيره وحده ويلاحظ ان كامو مرر اغلب الافكار الفلسفية عن طريق الاخت مارتا، والتي تبدو شخصية يائسة ومتشائمة كثيراً ونظرة الفرد للوجود تاتي كذلك عن طريق بعض الحوارات التي ورت على لسان يان فهو يقول: «يان: لدي شعور ثقيل بان هذا البيت ليس بيتي» وهي نظرة وجودية لهذا العالم وما يحمل من ماس وقلق للفرد. فمارتا تؤكد ذلك بقولها. «مارتا: ان هذه الغرفة جعلت للنوم وهذا العالم للموت» وفي حوار اخر: «مارتا: ان هذا العالم غير معقول». وهي رؤية وجودية اسبغها كامو ازاء العالم عبر شخصياته المسرحية. ان كامو حينما جعل شخصياته تنتحر بإرادتها وهي (الاخت) و(الام) فهو نابع من فلسفته في الانتحار فهو ميز بين نوعين من الانتحار احدهم يصدر عن ارادة عقلية وحرية اختيار والحرية في الاختيار مبدأ وجودي واضح العالم ومفهوم اساس للوجودية كما ان الموت الطبيعي غير موجود في المسرحية وهو جزء اخر من رؤية كامو وهو يسعى الى موت مدرك وليس موتا طبيعيا وذلك لإيجاد العلاقة بين وجود الانسان والموت كأساس في هذا الوجود وسبيل للخلاص من هذا الوجود فمارتا لا تستسلم للوجود القدري وتقول: «مارتا: ذلك انني لن ارفع عيني متوسلة الى السماء قبل ان اموت. هناك حيث يمكن الهرب والخلاص وضم الجسد الى جسد آخر والتدحرج في الموت في هذا البلد الذي يحرسه البحر لا ترسو الآلهة. اما هنا حيث النظر محدود من كل جهة، فالأرض مرسومة بحيث يرتفع الوجه ويتوسل النظر. اوه ! اني احقد على هذا العالم الذي نقنع فيه بالإله. انا التي أقاسي من الظلم لم أحصل على حقي ولن أركــع. سأغادر هذا العالم محرومة من مكاني على وجه الارض، منبوذة من أمي، وحيـــدة وسط جرائمي» فهي هنا لا تقبل بالرضوخ للموت الطبيعي وبالتالي سعت الى الخلاص وتحقيق الحرية عن طريق الانتحار وذلك للتخفيف من الام الوجود. ان مارتا فتاة شابة مختلة من الجانب النفسي وتعد نموذجا للشخصية المصابة باليأس والاكتئاب على طول المسرحية رغم ان كامو عرف بوجوديته الملحدة ولكن بعض حوارات مسرحية سوء تفاهم تدل اللجوء وتفويض الامر لله تعالى عن طريق الابن يان فهو يقول «يان: يا ماريا اريد ان تتركيني وحدي هنا لينجلي لي الامر. ما ذلك بالشيء المهول. ونوم المرء تحت السقف الذي تنام تحته أمه ليس بالمشكلة الكبرى. الباقي على الله. ولكن يعلم الله انني لا أنساك في كل ذلك». ان شخصيات كامو تعاني الوحدة الشديدة ورغم ذلك فكل منها معلقة بالاخرى كما حال الاخت والام. وكل واحد فيهم يبحث عن سعادة خاصة به، فمارتا تبحث عن الامسيات الجميلة حيث الشمس والربيع والبحر والبهجة وحلمها بان تهجر هذه الفترة التي تسكنها. «مارتا: لم يعد لدي صبر أدخره لأوربا هذه حيث للخريف وجه الربيع وللربيع رائحة البؤس لكني أتخيل في نشوة هذا البلد الآخر حيث يستحق الصيف كل شيء حيث تغرق أمطار الشتاء المدن» اما الام فكانت تبحث عن: «الام: إنني متعبة يا ابنتي ليس إلا وأود لو استرحت وتلك الراحة بالذات هي حلم امرأة عجوز انني أتطلع الى شيء من السلام فقط الى شيء من الاسترخاء» والراحة لم تحصل عليها الام سوى بالانتحار كما ان الابن كان يبحث عن سعادة عائلته ولذلك عاد من اجل ذلك. ان الفتاة (مارتا) كانت فتاة يائسة ومصابة بالاكتئاب والشعور بالظلم وهو مرض نفسي اصابها جراء طفولتها وعيشها في مكان مغلق وجراء فعل القتل الذي تغلغل في نفسها، فهو تقول: «أنا التي اقاسي من الظلم لم أحصل على حقي ولن أركع سأغادر هذا العالم محرومة من مكاني على وجه الارض منبوذة من أمي وحيدة وسط جرائمي دون أن أسالم » وبنفس الحوار تبرز رؤية كامو الالحادية في قول مارتا: «مارتا: اني احقد على هذا العالم الذي نقنع فيه بالله» ان شخصية مارتا كانت شخصية متشائمة بكل المقاييس وهي ترى ان العالم يفتقد السلام بكل تفاصيله فهي ترى: «مارتا: افهمي انه لا وطن له ولا سلام لا له ولا لنا لا في الحياة ولا في الموت» ثمة بعد واضح لعقدة مارتا فهي تفصح لزوجة يان عن ذلك من خلال الحوار الاتي: «تتكلمين لغة لا أفهمها. إني لا أفهم جيدا كلمات كالحب والفرح» والسبب واضح هو ميولها النفسي وعقدها، جراء عيشها في مكان منغلق على امل الخروج منه للبحث عن البحر والشمس الدافئة ولكن عبر سني عمرها في الفندق وممارسة فعل القتل مات كل شيء جميل فيها وتحولت الى كائن مريض نفسي يعيش على امل البحث عن سعادة مفقودة بفعل القتل للمسافرين من اجل سرقة نقودهم لتحقيق تلك السعادة التي لم تتحقق سوى بانتحار مارتا وخلاصها من هذا العالم العبثي المغلق. (*) البير كامو، مسرحية: سوء تفاهم، ترجمة: سامية احمد اسعد، (القاهرة: الدار القومية للطباعة والنشر 1966)

مشاركة :