يا أسفاه.. السياسة طغت على الاقتصاد

  • 5/14/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

كرجل أعمال، أُمضي معظم وقتي في متابعة المشروعات والاجتماعات والاتصالات، مُسخِّرًا الجهد والابداع لخدمة الإنتاجية والنمو، مؤمنا أن الاقتصاد هو أساس تنمية وازدهار ورفاهية الدولة والمجتمع انطلاقًا من قدرته على تلبية الاحتياجات الأساسية للناس في السكن والطعام والتعليم والصحة والخدمات وغيرها. ورغم اهتمامي بالثقافة والفلسفة والفن وغيرها، إلا أنه يجب أن اعترف أنني لم أكن أكترث كثيرًا بالسياسة إلا من زاوية الاقتصاد، بل كنت في كثير من الأحيان أرى أن الاقتصاد متقدمًا على السياسة، وأن غاية السياسة والسياسيين هي تطوير المجتمع وتعزيز استقرار ورفاهية أفراده، والارتقاء بالاقتصاد وتحسينه، لكن الحرب الروسية في أوكرانيا وتبعاتها السلبية على العالم بأجمعه جعلتني أعيد حساباتي مجددًا، وأدرك أن السياسة والفكر السياسي هي محرك الشعوب والأمم والدول أولاً وقبل كل شيء. كيف لا ونحن على أعتاب حرب عالمية ثالثة بين روسيا والعالم الغربي يجري فيها حديث هنا أو هناك عن احتمال استخدام أسلحة نووية فيها؟ ألا يعني هذا فناء العالم؟ صحيح أن الحربين العالميتين الأولى والثانية قامتا لأسباب اقتصادية في الأساس بسبب أطماع في السيطرة على المزيد من الأرض والموارد، لكن الحرب الروسية الأوكرانية لا تبدو كذلك، فقد نشبت لأسباب أمنية وتطورت لتصبح وكأنها معركة كسر عظم بين روسيا والغرب. يستخدم السياسيون السياسة للحصول على مكاسب شخصية، وهذا أمر ربما غير مبرر لكنه مفهوم بشكل أو بآخر، أما الخطورة فهي تسخير السياسة لخدمة العقيدة والإيديولوجيا، كما تفعل الحركات الإسلامية من جميع الطوائف عندما تستخدم الديمقراطية مطية للوصول إلى الحكم، ثم تفرض إرادتها وأفكارها على جميع المحكومين، حتى لو تعارضت هذه الأفكار مع المدنية الحديثة. في مصر مثلاً استغل الإخوان المسلمون ثورة شعبية ذات مطالب معيشية في «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية» وركبوا على الثورة بسبب قدراتهم التنظيمية مقابل تشتت القوى المدنية الأخرى، واكتسحوا مجلس النواب، دون أن ننسى أن حزب النور السلفي حل في المرتبة الثانية في شغل مقاعد المجلس، مقابل انحسار باقي الأحزاب والقوى. وفي تونس والسودان وغيرها، ورأينا جميعًا كيف أن أول قرارات الحكام الجدد في ليبيا مثلاً كانت أسلمة الاقتصاد وطرد البنوك التقليدية. في لبنان يبدو الوضع أكثر خطورة، والسبب أن الحزب والكتلة السياسية المسيطرة مرتبطة بمشروع إقليمي خارجي لم ينجح سوى في تخريب وتدمير الدول التي استحلها، وتحولت سوريا من بلد غني مكتفي يعشقه الكثير من العرب إلى دولة فاشلة، وكذلك العراق واليمن، حيث أدى أي إفقار الناس وبؤسهم، وفي كل يوم ينجح الحزب في نشر عقيدته بين مزيد من الناس تتراجع فيه مستويات المعيشة أكثر وأكثر، وتقتل سعادة الشعوب، حتى بات لبنان العز والحضارة والثقافة في حالة يرثى له من الخراب والفقر والدمار. لا أرى فائدة من الحرب الروسية الأوكرانية، ولست بصدد الحكم على من المخطئ ومن المصيب فيها، ولكن زعيمين عالميين بحجم بايدن وبوتين يجب أن يدركا أن سياسة عض الأصابع وإطالة أمد الحرب ستزيد من معاناة ليس الشعب الروسي أو الأوكراني أو الأمريكي أو الأوربي، بل العالم بأجمعه، العالم الذي لم يلتقط أنفاسه بعد جراء جائحة كورونا التي أصابت الصحة والاقتصاد في مقتل. الولايات المتحدة ذاتها تسخر الاقتصاد لخدمة السياسية، ويظهر هذا بشكل جلي وواضح من خلال عصا العقوبات الاقتصادية التي تلوح بها، بل وتستخدمها، ضد الدول التي ترى واشنطن أنه يجب معاقبتها، بما في ذلك إيران وكوريا الشمالية وسوريا وروسيا، مع أن الجميع بات يدرك أن هذه العقوبات تطال الشعوب فقط وليس الحكام الذين ينعمون في قصورهم، كما أنها لن تسهم في ثورة شعب على حكمه؛ لأنه بالأساس منهكًا جراء الجوع والخوف. اليهود أيضًا اعتمدوا على الاقتصاد والمال لتحقيق هدف سياسي هو إقامة دولتهم الموعودة على أرض فلسطين، وسخروا إمكاناتهم المالية المهولة في مختلف دول العالم نتيجة سيطرتهم على المصارف والديون من أجل خدمة هذا الغرض، وقدموا تمويلًا سخيًا سواء للتجمعات السياسية اليهودية أو للميليشيات الصهيونية المقاتلة على الأرض. كتبت في مقال سابق لي حول أني أرى أن هناك طريقتين لحكم بلد: واحدة منها ينطوي على تنافس ايديولوجيات، ويسودها هاجس الثورة والتغيير الجذري (التغيير وليس التطوير)، فتحتدم المعركة للسيطرة على النظام السياسي لتحقيق مكاسب شخصية أو فئوية، أما الطريقة الثانية فهي العمل جديًا لتحسين الأداء وخلق فرص العمل، وتوفير الخدمات وفتح الطرق وبناء المدارس والمستشفيات. وغني عن القول إن عدم الاستقرار يدمر الاقتصاد، ويخيف المستثمرين، ويقتل السياحة، ويحول البلد إلى أنقاض. هل أنا بحاجة إلى تقديم دليل إضافي على أن «اللعب» و«العمل» السياسي هما ضدان بالمطلق؟، يمكننا أن نرى أيضًا أنه في حالة عدم الاستقرار الذي ينشأ من «اللعبة السياسية» يسفر عنه طفرة في الفساد، فتغيب أو تغيب مؤسسات الرقابة والمحاسبة، ويشرع (الحكام السياسيون الجدد) في سرقة كل ما يقع تحت أيديهم بنهمٍ شديد؛ لأنهم يدركون أنهم لن يبقوا في السلطة لفترة طويلة. وبالمثل، فإن العديد من الدول الغربية التي كانت تنظر علينا وتدفعنا لتبني نماذج الحكم الرشيد انجرفت إلى اللعب بالسياسة بدل العمل السياسي. وأؤكد هنا أن المواطن الصالح هو أولاً وقبل كل شيء المبادر إلى رفع مساهمة في بناء أمته والبشرية جمعاء، وإن نجاح الحكومة ونجاحنا واحد، لذلك دعونا نتوقف عن الترهات وننشغل أكثر في نهضة بلدنا وتعزيز مسيرة أمنه واستقراره وازدهاره. أحمد الله تعالى على ما أسبغ علينا من نعما لا تعد ولا تحصى في دول الخليج العربي، من بينها حكمة حكامنا الكرام، والتي تجلت في أحدث صورها من المواقف التي اتخذتها دولنا تجاه الحرب الروسية - الغربية، وعدم الانجراف خلف طرف ضد الطرف الآخر، وإبداء الاستعداد للعب أي دور مطلوب يعيد الأمن والاستقرار والسلام. ويعيد وضع الاقتصاد أولاً. إنها السياسة الحكيمة التي تحتاجها شعوب العالم قاطبة، السياسة التي تضع الاقتصاد والتنمية في خدمة رفاهية الإنسان وازدهاره.   *رئيس مجلس إدارة مجموعة برموسِفِن القابضة

مشاركة :