هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان قارورة عطر، هكذا سجل الشاعر الراحل الراحلُ نزال سطورًا من ذاكرة بيتهم القديم الذي وُلد ونشأ فيه بين الياسمين والورد. كان ذلك ذات يوم بعيد عندما سكنت دمشق العربية روحه وجرت مجرى الدم في شرايينه فأنشد عنها «هاذي دمشقُ.. إني أحبُ وبعضُ الحب ذباحُ». ولأن نزار رحل عن دنيانا منذ سنين، وشيّع في لندن لا في دمشق التي أحب وكان حبه لها ذباحُ، ولأن الوكيل الرسمي للصفوي الفارسي خرج من ضيعة لبنان ليحتلها «حسن نصر الله» الذي فتح طرقها ودوربها ذات الوجه العربي الأموي القديم أمام أحفاد كسرى ليدخولها محتلين بيوتها المنقوشة بالحرف العربي الأقدم الذي عبث به المدعو قاسم سليماني وأزال منه «الضاد» حرفًا مستعصيًا على لسان مليشياته التي افترشت سوق الحميدية الشعبي فتحول إلى سوق سوداء لبيع العملة خارج إطار القانون. ونعود إلى بيته الدمشقي «قارورة العطر» فلا نجد أثرًا لعطرٍ كان يفوحُ من جنباته ولا نجد أثرًا لياسمينة كان الطفلُ نزار يتأمل فيها البياض زهرًا يضوع حنانًا. ولكننا نجد بقايا صور ويافطات وشعاراتٍ تمجدُ الارهابي المقبور قاسم سليماني، فقد أبى اتحادُ كتّاب سوريا إلا وأن يجمعوا معهم الشعراء الإيرانيين في صالة بيت نزار قباني القديم، ويقتلعوا من فوق جدرانها كل إثر عربي لصورةٍ أو كلمة أو بقايا قصيدة عربية لنزار، ويملؤوا الجدران والممرات بصور خامنئي وخميني وسليماني وضابط مليشيا الحرس الثوري «عالمهم الثوري» محسن زاده. وأطلقوا على ذلك الملتقى الشعري «نهج الشهيدين»، فسقطت آخر دمعةٍ من بقايا صورة لنزار مخبوءة في مخزن رطبٍ قديم في منزله الذي لم يعد منزله!! وكم من ذكرى مرَّت على رحيل نزار لم يشهد بينه ولا قارورة عطر التي اندلقت وتبخرت منها العطور منذ سنين، لم تشهد لقاءً ولا أمسيةً، ولم يذكره أو يتذكرهُ زملاء وتلاميذ وجماعات من الفنانين هناك لطالما كانوا يتخاطفون قصائده ليغنوها بحثًا عن شهرةٍ وعن نجاح مؤكدٍ تضيفه لهم قصائد نزار وكلماته، حتى دمشق التي كان حبه لها ذباحًا لم تتذكره حاراتها فترشف كوب قهوةٍ في ذكراه الأجمل لحنًا وقصيدة. ولعل وفاتك قبل حين كان رحمةً لقلبك قبل أن يشهد ويسمع قصيدة ذات لكنةٍ غريبة كسروية تُقرأ في بيتك القديم بعمارته ذات الطابع الأموي العربي الذي عرفته عمارات دمشق والشام منذ تاريخ بعيد. نزار قباني الذي عاد إلى دمشق في تابوتٍ أحاط به كل العشاق وكل المحبين، وبكت عليه أشجار الياسمين الدمشقي الفوَّاح، نزار لو عدت إلى منزلك القديم فلن تتعرف عليه وقد نزعوا من على جدرانه ذاكرتك وصنعوا هناك ذاكرة غريبة لا تعرفها أيها السيف الدمشقي العربي، إنها ذاكرة لم تعرف الحب كما عرفته أنت، ذاكرة مسكونة بروح الانتقام والثأر والدم اسمها قاسم سليماني. فأغمض عينك بسلام الحب لأنك لا تعرف مثل هذه الذاكرة الدموية، ولا تعرف صاحبها حتى وإن أنشدوا له قصائد مدحٍ وتمجيد في باحة منزلكم القديم، فذلك البيت يا سيد الشعر العربي لم يعد بيتكم الناطق بعربية تضيء بحرف «الضاد» الذي اغتاله سليماني على جدران منزلكم القديم، لكنه ظل نابضًا في قصائدك النزارية العربية التي لن تموت.
مشاركة :