جائحة كوفيد - 19 دليل دامغ على أن الصحة إذا كانت مهددة بالخطر، يصبح كل ما سواها مهددا بالخطر. ويصدق ذلك على الأفراد والأسر التي تواجه مرضا يهدد حياتها، ويصدق على الدول - والعالم أجمع - في مواجهة الأوبئة والجوائح. وإذا نظرنا إلى ما هو أبعد من حالات الوفاة والمرض التي تسبب فيها الفيروس في حد ذاته، لوجدنا أن جائحة كوفيد - 19 أدت إلى اضطراب الخدمات الصحية الأساسية للملايين، وهددت كثيرا من المكاسب التي تحققت في الأعوام الماضية في مكافحة وفيات الأمهات والأطفال، وأمراض الإيدز والملاريا والسل وأكثر من ذلك. ووقع الملايين في هوة الفقر، بينما انكمش الدخل العالمي. وتعتمد حماية صحة الناس على النظم الصحية الصلبة التي تضمن حصول الجميع على الخدمات التي يحتاجون إليها وفق مستويات جودة عالية من دون مواجهة مصاعب في التمويل. وهذا هو ما نعنيه بالتغطية الصحية الشاملة UHC. فالتغطية الصحية الشاملة تعني أكثر بكثير من "الرعاية الصحية" التي يقدمها العاملون في مجال الصحة في المنشآت الصحية، فهي تتضمن مجموعة شاملة من الخدمات لدعم الرعاية الصحية والوقاية من الأمراض على مستوى السكان، منها - على سبيل المثال لا الحصر -، مراقبة تفشي الجوائح، والمياه الصالحة للشرب، والصرف الصحي، وحملات مكافحة التدخين. ومن ثم، فالتقدم نحو الرعاية الصحية الشاملة يعود بمنافع كثيرة تتجاوز معالجة الأمراض، بما في ذلك تحسين الأمن الصحي وتوفير حماية أفضل ضد ويلات الجوائح والأوبئة مستقبلا. وخلال انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2019، أي قبل تفشي الجائحة بأشهر قلائل، صادقت جميع الدول على "الإعلان السياسي بشأن التغطية الصحية الشاملة"، مؤكدة أن "الصحة شرط أساسي كما أنها ناتج ومؤشر على الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للتنمية المستدامة وتنفيذ خطة التنمية المستدامة في 2030". وهذه العبارة لها صدى الآن أكثر من أي وقت مضى. فقد ذكرتنا الجائحة أن الصحة ليست مجرد نتيجة للتنمية المستدامة، وإنما هي الوسيلة لتحقيقها. والسؤال المطروح: كيف نواصل التقدم نحو التغطية الصحية الشاملة؟ فبينما تلقي الجائحة الضوء على الحاجة إلى التغطية الصحية الشاملة، يجب علينا أن ندرك المشكلات التي سبقتها. فلا يزال هناك مئات الملايين من الناس الذين يتحملون نفقات الرعاية الصحية من أموالهم الخاصة ويخصصون في سبيلها أجزاء كبيرة من ميزانيات أسرهم. ومن شأن هذه التكاليف أن تدفع الأسر نحو هوة الفقر، وأن تقضي على مدخراتها، وأن تحول بينها وبين طلب الرعاية تماما. وعلى الرغم من أن كوفيد - 19 برهان على الأهمية الكبيرة للرعاية الصحية الشاملة، فيمكن أن تفضي الجائحة بالفعل إلى جعل هذه الرعاية بعيدة عن منال مزيد من الناس. فقد أفضت الأزمة الصحية إلى أزمة اقتصادية عالمية، بينما أفقر سكان العالم هم الأقل قدرة على تحملها. ونتيجة لذلك، فأعباء الدين الثقيلة بالفعل في بعض الدول ستزداد سوءا، وإذا لم يتم توجيه الجهود لتخفيف وطأتها، فقد يؤدي ارتفاع تكاليف خدمة الدين إلى انخفاض الإنفاق العام على القطاعات الاجتماعية، بما فيها الصحة، رغم الحاجة المتزايدة إلى الخدمات الصحية الضرورية. والتمويل العام هو جوهر الرعاية الصحية الشاملة. وقلما يتسنى لأي دولة أن تحقق تقدما ملموسا نحو الرعاية الصحية الشاملة من دون الاعتماد على الأموال العامة كمصدر رئيس لتمويلها. ورغم ذلك، فإن استمرار التقدم نحو الرعاية الصحية الشاملة مسألة تتجاوز مقدار المال الذي ينفق، وإنما العنصر الأساسي هو حسن التصرف في إنفاق هذه الأموال. يجب علينا أن ننظر إلى التغطية الصحية الشاملة كهدف للسياسات العامة وكاستثمار... يتبع.
مشاركة :