استمع يوسف أبولوز تجلس إلما راكوزا في الكتاب، طبعاً، وليس إلى جواري، وتتحدث عن والدها بعد أن تصف خزانة ملابسه وتتوقف أمام قطيع ربطات العنق. رجل يحب الموسيقى، وعندما يميل برأسه وهو جالس على الأريكة الزرقاء فإنه يشبه الحمامة.. هذا هو والد الكاتبة اليوغسلافية إلما ركوزا .. كان يحب أكل الإلية، سلطة الهندباء مع البطاطا وزيت اليقطين، مع سمك طازج من منطقة الادرياتيك، وطبعاً زجاجة النبيذ كانت إلزاماً، ونكاشة الأسنان بعد الطعام ثم تقول برجه برج الحوت. رقيق تخشى لمسه... قرأت عن كتاب وكاتبات وصفوا آباءهم وهم على قيد الحياة، أو بعد موتهم، لكن هذه المرأة التي وضعت كتاباً يشبه خزانة للورد تكتب بأصابع تصلح للعزف على البيانو، وعلى أي حال، فالكتابة هي نوع من العزف.. إلما راكوزا تعزف على البيانو في كتابها بحر أكثر، ولكنها ترسم أيضاً ترسم بالكلمات، أو، ترسم بالهواء. انظر كيف تتحدث عن الرياح والغيوم.. الريح كالثلج، لا كالغيم الذي يأخذ هيئات مختلفة: القطن، الأجنحة، الأسماك، التنانين، الأذان، الأبواب، خرطوم الفيل، السفن، الجرار الخزفية، الخيول، الأشرعة، بألوان الأردواز، الأزرق الرصاصي، البيج، الأصفر العكر، الحليبي، ليس للريح لون، إنما صوت، فهي تغني، تصفر، تتنهد، وتقصف محتدة... تجلس إلما راكوزا بالقرب من موقد، وقد قذفت خلف ظهرها كل رعب شيوعية الاتحاد السوفييتي في السابق، وتخلصت من إرهاب الحزب الأحمر، والإيديولوجية الحمراء. تجلس وتكتب بهدوء بعيداً عن العيون الحمر ل (ك.ج.بي) ورجال عصابات الموت الذين كانوا يرضعون حليب العنف من مؤسسات الرقابة والمراقبة والمعاقبة. لم تكن هذه السيدة الأوروبية الشرقية وحدها من وجدت لذة الحياة في لذة الكتابة هرباً من البوليس السوفييتي، وعلى أي حال لا يوجد الآن اتحاد سوفييتي، بل هرب ميلان كونديرا من كماشة الشيوعية إلى الحرية الإنسانية في فرنسا، بل هرب من لغته التشيكية إلى الفرنسية، وفي اللغة أيضاً، عثر على شيء من إنسانيته المهدورة. أين يجد الكاتب حريته؟ هل يجدها في لغة يهاجر إليها، أم يجدها في بلد يرتحل إليه؟ نماذج من مثل راكوزا، وكونديرا، لا تفكر طويلاً في الأمر. الكتابة تحسم الأمر لأنها خيار ومصير وحرية، وما تكتبه سيدة الرياح والغيوم هذه يتلخص في كلمة واحدة: الحرية. تقول: يصعب السكن في الريح، كما يؤكد بياجيو ماريني، وعلى أي حال، فهي الآن تسكن في الغيوم. yosflooz@gmail.com
مشاركة :