باسترناك .. ساكن الغيوم

  • 9/28/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

اختيرت رواية "دكتور زيفاجو" للأديب الروسي بوريس باسترناك من أفضل مائة رواية صدرت في القرن العشرين، وتحولت في عام 1965 إلى فيلم سينمائي ملحمي من إخراج ديفيد لين، بطولة عمر الشريف وجولي كرستي، وفاز بخمس جوائز سينمائية عالمية، وحقق إيرادات غير مسبوقة. والرواية أقرب إلى السيرة الذاتية لمؤلفها وعشيقته أولجا إيفنيسكايا التي قامت بدورها "لارا"، وتدور الأحداث مؤرخة لثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 في المجتمع الروسي، علماً بأنها كتبت فى عام 1946 بعد الحرب العالمية الثانية، ونشرت فى إيطاليا في عام 1957 بعد رفض ناشري روسيا طباعتها، ومنع نشرها من السلطات هناك لانتقادها النظام السوفيتي وإظهار سلبياته وتجسد الرواية سيرة الطبيب "زيفاجو" الذي يصطدم بالثورة، ويعاني من قسوة الإضهاد والحرب الأهلية التي نتجت عنها، وتصور علاقته بفتاة فقيرة تدعى "لارا" التي وجدت نفسها محاطة برجال من رموز الثورة، وتنتهى علاقتها العاطفية مع الشاب "يورى زيفاجو" بالانتحار في غرفة وحيدة. وقد فاز باسترناك في عام 1958 بجائزة نوبل في الأدب عن روايته "دكتور زيفاجو" وديوانه الشعري "حياتي الشقيقة"، الذي استلهم قصائده من قرية على نهر الفولجا، وقد أشاد النقاد بهذا الديوان، واعتبروه علامةً فارقة في تاريخ الشعر الروسي، وبالرغم من فوزه بهذه الجائزة العالمية فإنه أرسل خطاب اعتذار عن عدم استلامها إلى الأكاديمية المنظمة لها في استكهولم بالسويد، بعد الهجوم الكبير الذي تعرض له من اتحاد الكتاب السوفيتي، الذي قرّر شطب عضويته و- أيضاً - ترحيله خارج روسيا، فأرسل باسترناك خطاباً إلى خروتشوف – سكرتير الحزب الروسي، يطلب منه إبقاءه في وطنه روسيا مقابل عدم تسلم الجائزة، التي اعتبروها انتقاداً للنظام الروسي الشيوعي، فاستجاب لطلبه. وُلد بوريس ليونيدوفيش باسترناك في العاشر من فبراير/شباط 1890 بموسكو، لأب كان يهودياً، وتحول إلى الكنيسة الأرثوزكسية، وهو رسام متميز وأستاذ في معهد الفنون، ولأم هي روزاكوفمان عازفة بيانو مشهورة، وتزوج من يفجينيا لورى من 1922 حتى 1931. وقد أتاح له هذا الانفتاح على مختلف الثقافات، كما كان لتحوّل والده إلى المسيحية أثر كبير عليه، وقد بدا ذلك جلياً في عددٍ من قصائده، وبالرغم من دراسته للفلسفة في جامعة ماربورج فإنه لم يعمل بها. وقد صدرت أولى مجموعاته القصصية بعنوان "توأمان في السحاب" في عام 1914، وفي عام 1930 قدّم روايته "شبكتورسكي"، ثم نشر مجموعته القصصية "الحكاية"، وهي قصص مستوحاة من قصائده، ليدخل في عام 1931 ما سماه في أحد أعماله "الميلاد الجديد"، بعد أن أقام في جورجيا ليبدأ عزلته عن الحياة الثقافية في عهْد ستالين. وقد ترجم إلى الروسية عن شكسبير (هاملت، ماكبث، والملك لير) وعن جوته "فاوست"، بالإضافة إلى عدد من الشعراء الجورجيين، وأنقذته لغته الأدبية وما بها من رموز ودلالات من الاعتقال أثناء حملات التطهير في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث ورد اسمه ضمن المطلوب اعتقالهم، بيد أنَّ ستالين حذفه قائلاً: "لا تلمسوا ساكن الغيوم هذا".  وعاد باسترناك إلى الإبداع الأدبي عقب فترة من الإبتعاد بعد الاضطهاد، وذلك بعد وفاة جوزيف ستالين رئيس مجلس الدولة الروسية في الخامس من مارس/آذار عام 1953، وبالرغم من انتقاده للنظام الشيوعي فإنه يدين له بالفضل في شهرته وذيوع اسمه الأدبي. وهو ما عبَّر عنه في جل أعماله القصصية والروائية، و- أيضاً – ما جسدته قصائده الشعرية، ومنها: "ليلة شتائية" وفيها يؤكد على قدرة الإنسان على المقاومة وعلى المضى لنصرة مبدأه وتحقيق هدفه، وتأمل قوله: "يسّاقط الثلج يساقط فوق العالم كله من أقصاه إلى أقصاه وعلى الطاولة شمعة تحترق شمعة تحترق" ولنصل إلى قوله:  "وهبَّت نسمةٌ من الزاوية تحرّك الشعلة وحرارة التجربة البيضاء أطارت أجنحتها الملائكية التي ألقت ظلاً صليبياً وانهمر الثلجُ طوال الشهر بدون انقطاع وعلى الطاولة شمعة تحترق شمعة تحترق" الشمعة تحترق في مواجهة الثلج المحيط، وتنتصر رغم مقاومة الصقيع. ومن قصائده أيضاً "دروب الربيع" التي يعبر فيها عن استطاعة الفارس المقاوم للواقع من الانتصار والاقتحام رغم الحواجز والعوائق، وتأمل قوله: "كان لهيب شمس المغيب يخمد والفارس يمضي إلى مزرعة بعيدة في الأورال على طريق بللها ندى الربيع في غابة كثيفة من الصنوبر كان الحصان يلهث كانت البرك الدائرة تطلق صداها فوق الطريق وتقفو أثره وحين كان الفارس يُرخى العنان ويخفف من سيره حتى الهوينى كانت جداول الربيع ترسل عالياً قربه كل دويها كل صخبها بعضها ضحك .. بعضها بكى وصار الحصى غباراً تحت وطأة الحصان وجذوع الشجر وقد تخلخلت واقتلعتْ" ويلجأ باسترناك في قصيدته "خرافة" إلى توظيف الأسطورة لتجسيد دور البطل المنقذ للحسناء من براثن التنين. وتأمل قوله: "ها هو الفارس على الأرض بخوذته المحطمة وحوافر حصانه الأمين  تزهق روح التنين وسرعان ما تمددت على التراب جثتا التنين والحصان والفارس فاقد الوعي والحسناء في غيبوبة من ترى هذه الفتاة أهي من العامة؟  أم من سلالة الملوك؟ وسالت دموع الفرح جداول على خديها وعاد للفارس وعيه لكنه لم يستطع حراكاً  ولكنَّ قلبيهما خفقا وكلما حاول كلاهما جهده ليستفيق عاد إلى  النوم ثانية أجفان مطبقة قمم شاهقة  وغيوم مياه جسور وأنهار سنوات وأجيال لا تحصى.ونعتقد أنه قد تأثر في كتابته لقصيدة خرافة بالميثولوجيا المصرية المتمثلة في أسطورة "عروس النيل" واعتقاد أهل مصر قديماً في أن فيضان النيل يقترب بإلقائهم عروساً في مياه النيل قرباناً له. و- أيضاً - من قصائده، قصيدة بعنوان "حُلم" (1913) ترجمة د. مكارم الغمري يقول فيها: كنت أحلم بالخريف في غسق الزجاج  الأصدقاء وأنت في جمع صاخب  وكصقر أزرق من السماء فريسة  هبط إليك قلبى في راحتك لكن الوقت كان يمضى ويشيخ ويزوي وبأطر حريري فضي  كان الفجر يغمر الزجاج من الحديقة  ومثل جليد كانت تتداعى  وتتهاوى مقاعد الحرير  وفجأة أنتِ الواعدة تعثرت وأصابك الصمم وذهب الحلم كصدى الرنين واستيقظت كأنَّ الفجر مثل الخريف معتمٌ والريح وهي تنأى حملت  كومة التبولا الهاربة في السماء كمطرٍ راكض خلف عربة قش" وفي القصيدة نقف على قدرة باسترناك في توظيف الرمز لتجسيد الحلم واستعمال ما يسمى بالدلالات الموحية لتعميق أثر صورته الشعرية كما في: "كمطرٍ راكض خلف عربة قش". وقد عرف باسترناك مهنة الشعر في قصيدة له بقوله: "هو الصغير المكثف حتى يتماهى كتلة  هو فرقعة قطع الثلج حين نضغطها  هو الليل ذو الأوراق المتجمدة هو التنافس بين البلابل هو حياة البازلاء الحلوة المقموعة هو دموع الكون في حزوز الفاصولياء هو حالمة النوتة والمزمار  والفيكارو منهمرة برداً على حقيل هو ما تبحث عنه الليالى في أماكن العوم العميقة في القاع وجلبها لنجمة هناك في حوض الأسماك على راحتيها الراجفتين الرطبتين هو انحباس الهواء كرقائق الدفوف في الماء هو جسد السماء حين تنحنى مائلة كشجر الحور عندما يطيب لنجومها أن تضحك لكن الكون كله مكان أصم لا يجيد السماع"      وفد أشاد النقاد بدوره في إعادة الحياة للأدب الروسي القديم، الذي طغت عليه الثورة البلشفية، فضلاً عن شعره الحداثي الذي احتفى بالتقنيات الحديثة، كما كان لاغترابه في وطنه ومعاناته في مواجهة الواقع ومقاومته الأثر البالغ في اتقاد موهبته وتفرّد إبداعاته الأدبية في الرواية والشعر. وقد صدر لباسترناك في عام 1959 قصة جديدة بعنوان "رسالة مرفقة"، كما نشرت له مجموعة قصائد بعنوان "عندما يستطع النور"، وكان آخر ما كتب قصة بعنوان "الجمال النائم"، ولكنه لم يتمها بعد أن اشتدت به آلام مرض سرطان الرئة، الذي توفي على أثره في عام 1960، وبوفاته فقدت روسيا أديباً وشاعراً أضاف إلى الأدب الروسي إضافات مبدعة عبرت الحدود إلى العالم أجمع، وارتفعت إلى سماء الإبداع مسجلة اسمه بجوار من سبقوه من أدباء روسيا وشعرائها بوشكين، توليستوى، دويستوفيسكي، جوجول، تشيكوف ومكسيم جورجي. واعترافاً بمكانته الأدبية الفذة قامت السلطات الروسية في عام 1987 بنشر روايته "دكتور زيفاجو" الممنوعة من النشر، وذلك بعد زوال النظام الشيوعي وبداية البيريسترويكا، كما اتخذ منزله متحفاً يضم أعماله ومقتنياته ومذكراته وأصبح مزاراً لمن يرغب في التعرف على المزيد من أسرار باسترناك شاعر روسيا ساكن الغيوم.  

مشاركة :