أحدثت جائحة كوفيد-19 تغييرات كثيرة على أنماط الحياة المألوفة وسط قدر كبير من الإرباك الذي طال سبل العيش وآليات العمل وتجارب اللعب خارج المنزل كما عهدناها قبل الجائحة. وبدأت الشركات تدريجياً بتبني نماذج عمل مختلطة تتميز بالمرونة لتلبية الطلب المتنامي لدى الموظفين على التواجد في موقع محوري يجمع بين العمل والحياة الاجتماعية والتسوق لتحقيق التوازن الأمثل على مستوى الحياة المهنية. واستجابة لهذه الديناميكية الجديدة، يواصل المستثمرون وأصحاب العقارات في أسواق المملكة المتحدة البحث عن مواقع رئيسية تتسم بمعايير إضافية تتيح سهولة الوصول إلى وسائل النقل وشبكات المواصلات الرئيسية، بالإضافة إلى توافر وسائل الراحة ومرافق الخدمات الشاملة، والقرب من المؤسسات التعليمية وغيرها من أساسيات الحياة اليومية. وتهدف إستراتيجية الاستثمار هذه إلى تحقيق العائدات من ارتفاع قيمة الأصول وفرص تأجير العقار على المدى البعيد. ويؤكد تقرير «لندن 2022» الصادر عن شركة الاستشارات العقارية نايت فرانك أهمية هذه الإستراتيجية من خلال تسليط الضوء على مفهوم «الضواحي الواقعة على بعد 15 دقيقة» وهو مفهوم آخذ في الانتشار بوتيرة كبيرة يحث على إعادة تشكيل رؤيتنا حول كيفية تخطيط المدن لتحويلها إلى نماذج مرنة قادرة على الازدهار في حقبة ما بعد الجائحة. ويركز هذا المفهوم أيضاً على أهمية بناء كيانات عمرانية تتوافر فيها جميع المرافق المجتمعية ولا سيما أماكن العمل والسكن والترفيه والتسوق التي تتصل بعضها ببعض بكفاءة عبر مسارات للمشاة بحيث لا يستغرق الوصول إلى الوجهة المستهدفة أكثر من 15 دقيقة سيراً على الأقدام. ويساهم أسلوب العيش الجديد هذا في تحديد المتطلبات المتغيرة للمشتري والمستأجر وشاغل العقار كما يثير أهمية بناء كيانات عمرانية تحقق المرونة وتجعل المجتمعات قادرة على الصمود في وجه الاضطرابات الاقتصادية، بالإضافة إلى توفير القيمة الاجتماعية للقاطنين. تلقى مواضيع الاستثمار العقاري صدى واسعاً في منطقة الشرق الأوسط، بحسب ما كشفه تقرير الثروات في نسخته الأخيرة الصادرة عن شركة نايت فرانك، حيث شمل التقرير استطلاعاً لآراء أصحاب الثروات العالية والثروات الفائقة في جميع أنحاء المنطقة. وأشار التقرير الى أن المستثمرين الذين يركزون على سوق العقارات في المملكة المتحدة يبحثون بشكل خاص عن عقارات تتوافر فيها مرافق الخدمات وسبل الراحة والمرافق الترفيهية والمساحات الخضراء واتصال فعال بوسائل النقل العام. ولا شك أن منطقة الشرق الأوسط كانت السباقة في تنفيذ هذا المفهوم، ولا سيما من خلال تصميم مدينة «دبي الحديثة» الذي يعكس التصور المستقبلي لمفهوم التخطيط الرئيسي للمدن. ومن الأمثلة الموضوعية عن هذا التصور المخطط الحضري لتحويل الموقع الضخم لمعرض إكسبو 2020 على مدى السنوات القليلة القادمة إلى مدينة ذكية ومستدامة للمستقبل يكون محورها العنصر البشري في إطار نموذج قائم على فكرة الأحياء المحيطة التي تقع على بعد 15 دقيقة. اسهمت هذه التحولات الحضرية في ترسيخ ذهنية مشتركة تجاه المستقبل لدى المستثمرين العقاريين في منطقة الشرق الاوسط ما أدى إلى بلورة الملامح المبتكرة التي يتمتع بها مبنى Battersea Power Station الذي لاقى صدى قوياً لدى الشارين من المنطقة. وقد شهد سوق العقارات الرئيسية في وسط مدينة لندن مع بداية الشهر الخامس من عام 2022 ارتفاعًا في الطلب على العقارات، ويُعزى ذلك بشكل رئيسي إلى عودة المستثمرين الدوليين إلى المدينة وارتفاع قيمة الإيجارات والعائدات. كما أدت عوامل أخرى مثل ندرة الأراضي والافتقار إلى المساكن وارتفاع تكاليف التطوير العمراني إلى تعزيز حجم الطلب على العقارات. ومع بدء رفع القيود المفروضة على السفر جراء جائحة كوفيد-19، باشر المشترون من الشرق الأوسط عودتهم إلى المملكة المتحدة، حيث بدأوا بالتوافد إلى سوق العقارات المحلي بحثاً عن مشاريع عمرانية جديدة، ومن المتوقع أن تستقطب المشاريع التي يستوفي تصميمها المعايير التي تتماشى مع مفهوم «الأحياء التي تقع على بعد 15 دقيقة» أكبر عدد من المستثمرين. أظهر تقرير الثروات في نسخته الأخيرة الصادرة عن شركة الاستشارات العقارية نايت فرانك أن المملكة المتحدة هي الوجهة المحتملة الأكثر استقطاباً للمشترين من أصحاب الثروات الكبيرة وأصحاب الثروات الفائقة في الشرق الأوسط الذين يتطلعون إلى شراء منزل جديد هذا العام. وفي العديد من الحالات، ستكون الأفضلية للممتلكات الجاهزة للسكن، لا سيما وأنّ العراقيل التي شهدتها مشاريع البناء قد أثرت بشكل سلبي على هذا القطاع. لا شك في أن المشاريع العمرانية التي تحيط بها مرافق خدمات تقع على بعد 15 دقيقة تلعب دوراً كبيراً في تعزيز الاقتصاد المحلي وتحسين الصحة العامة والرفاهية، كما أنها توفر التوازن المطلوب بين العمل والحياة بعد التحولات التي شهدتها أنماط الحياة اليومية بعد الجائحة.
مشاركة :