ما السبيل لعالم يسوده التعايش مع التنوع والإختلاف؟ علامة استفهام كثر الحديث عنها، والبحث عن طرق الوصول إليها في العقدين الأخيرين من القرن الحادي والعشرين بنوع خاص، لا سيما بعد صحوة غير محبوبة ولا مرغوبة من التوجهات القومية، والنزعات الشوفينية والعنصرية، الأمر الذي أدى إلى اندلاع حروب بين الدول، وصراعات أهلية وعرقية داخل الدولة الواحدة. أفضل من قدم جوابا عن السؤال المتقدم، المفكر والأكاديمي الإماراتي، الدكتور علي النعيمي في مؤلفه الأحدث “التعايش مع التنوع والاختلاف”، وعنده أنه في جميع عمليات التغيير الاجتماعي والثقافي تكون بداية عملية التغيير بالتعليم وغرس القيم، وتكون نهايتها بالقانون، ذاك الذي يحمي المجتمع ومؤسساته وقيمه وأعرافه من الخارجين عليها، المهددين لها، بحسب سطور الكتاب. يقدم لنا المؤلف ما يشبه خريطة طريق، يمكن من خلال السير في دروبها استنقاذ البشرية من وهدة الصراعات المهلكة التي تعيشها في حاضرات أيامنا.. ما هي ملامح تلك الخريطة؟ يمكن الإشارة بدون اختصار مخل إلى ما يلي: ** ضرورة الإسراع بإصدار قوانين لمكافحة خطاب الكراهية والعنف واجتثاث جذوره، ذلك لأن الدول والمجتمعات تستقر وتنجح وتستمر بحكم القانون، وليس بالإقناع والاستجداء والملاطفة. حكم القانون إذن هو الأساس لإنقاذ الناس من الوقوع تحت طائلة القانون، ويلفت الكاتب إلى أن دولة الإمارات العربية المتحدة، كانت أول دولة تصدر قانونا لتجريم خطاب الكراهية والتمييز في عام 2015، تلك الخطوة الرائدة التي وضعتها في مقدمة الدول التي تحترم التعددية والتعايش. ولعله من الأسف الشديد أنه لم تقم دولة أخرى حتى اليوم بإصدار قوانين مماثلة لتجريم خطاب الكراهية والتمييز والعنصرية تحت ذريعة حرية الرأي والتعبير، التي أثبتت العديد من المواقف والأحداث الدولية في العقدين الأخيرين أنها مجرد شعار وأداة سياسية يتم توظيفها لتحقيق مصالح الدول التي تنصب من نفسها سدنة وحراس معبد حرية الرأي والتعبير، ثم يهدمون المعبد إذا تم تهديد مصالحهم، حيث تتم التضحية بهذه المبادئ، ويتم الحجر على حرية الرأي والتعبير إذا كانت تعبر عن الخصوم والأعداء، وذلك تحت ذرائع وشعارات عديدة لا يعدمها المتحكمون في المؤسسات الدولية المختلفة. **إصلاح النظام التعليمي في جميع دول العالم من خلال مبادرة تقودها منظمة اليونسكو، تعمل على أن تكون مناهج التعليم الرسمية، أو الأنشطة التعليمية المصاحبة من خارج المناهج، أن تكون جميعها خالية من أي مفردات أو قيم تحرض على الكراهية والتمييز والعنصرية، وأن يتم غرس قيم التعايش واحترام التنوع والاختلاف، والالتزام بقيم التسامح، وأن يكون هناك مرصد تعليمي عالمي يتابع المناهج في جميع دول العالم، ويرصد أية مخالفات، ويتم إبلاغ ذلك لمنظمة اليونسكو التي تقوم بدورها باتخاذ الإجراءات طبقا لنظام المنظمات التابعة للأمم المتحدة. **وضع ميثاق عالمي لمكافحة خطاب الكراهية والعنصرية والتميز في الدراما والسينما وسائر الفنون، يجعل هذه الوسائل المهمة، بل والخطيرة في تشكيل الوعي الجمعي والمجتمعات خالية من القيم التي تشجع على العنصرية واحتقار الآخر وكراهيته والتعالي عليه، وبعد ذلك يتم تخصيص جوائز عالمية لتشجيع الأعمال الفنية التي تسهم في ترسيخ قيم التعايش والتسامح واحترام الآخر، وسيكون من الأفضل أن يتم تخصيص المهرجانات السينمائية الكبرى في العالم مثل “هوليوود” و”كان” وغيرهما جائزة للأعمال الفنية التي ترسخ قيم التسامح والتعايش واحترام الآخر. ** وضع ضوابط دقيقة لوسائل التواصل الاجتماعي بجميع أنواعها تجرم خطاب الكراهية والتمييز والعنصرية واحتقار الآخر، وذلك من خلال منع أي محتوى يشتمل على هذا النوع من الخطاب من الظهور على وسائل التواصل الاجتماعي، وحذف حساب كل من يسوق هذا النوع من الخطاب، ويمكن التحكم في ذلك من خلال ضبط الخوارزميات الخاصة بكل وسيلة تواصل اجتماعي على حده، ومن خلال اللجان الإستشارية التي تشرف عليها، على أن تكون هناك ضوابط قانونية للتعامل مع أية وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي لا تلتزم بهذه القواعد. **وضع ميثاق صحفي عالمي يجرم التعدي على معتقدات الآخرين، ويحترم التنوع والاختلاف، ويكافح خطاب التمييز والكراهية، بحيث لا تكون حرية الصحافة وسيلة لتسويق العنصرية والكراهية والتمييز واحتقار الآخرين، على أن يتم اعتماد هذا الميثاق في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتلتزم جميع الدول باحترامه من خلال التشريعات الوطنية الخاصة بكل دولة. ** وضع وثيقة للحرية الدينية من خلال مؤتمر عالمي لقادة الأديان في جميع أنحاء العالم، أسوة بوثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر في أبو ظبي 2019، على أن تنص هذه الوثيقة على منع خطاب الكراهية، أو التمييز ضد المختلف دينيا، أو احتقار عقيدته، أو نقدها، أو الدعاء عليه، وأن يلتزم الجميع بالحكمة القرآنية “لكم دينكم ولي دين”. يرى الدكتور النعيمي في خلاصة عمله المتميز هذا، أنه إذا تم تحقيق هذه الشروط الستة لأمكن أن ينعم العالم بالتعايش مع تنوع شعوبه ومجتمعاته واختلافها دينيا وعرقيا ولغويا وثقافيا، وبذلك يعيش أبناؤنا وأحفادنا في عالم أكثر أمنا وسعادة واستقرارا. ولعل نموذج دولة الإمارات العربية المتحدة يمثل مختبرا بشريا يثبت أن تحقيق هذا الحلم ممكن، بل من اليسير الوصول إليه إذا تم الالتزام بالشروط التي تحققه. كتاب الدكتور النعيمي شمعه مضيئة للوفاق في زمن الافتراق، عبر كلماته التي تجمع ولا تفرق، تشرح ولا تجرح، وهي ديدنه في مؤلفاته وطروحاته السابقة. مبروك هذا العمل جزيل القيمة والنفع لكل أصحاب الضمائر الصالحة والنوايا الطيبة في شرق العالم وغربه، شماله وجنوبه.
مشاركة :