ما هو أكبر تهديد لعالمنا المعاصر؟ قد يرى البعض أن الحرب العالمية، التي يمكن أن تنجم عن المواجهة الروسية – الصينية، هي من يتهدد الأمن والسلم العالمي، فيما يرى البعض الأخر أن أزمة الطاقة العالمية باتت تمثل الهول الأكبر، ويذهب فريق ثالث إلى القول بأن الأزمة الغذائية العالمية باتت كسيف ديموقليس المسلط على رقاب الجميع. والشاهد أن كل هذه الأسباب لها وجاهتها، غير أن المحرك الخفي لها مجتمعة، يبقى شعور الكراهية للأخر، ومحاولة نفيه من سياقات الحياة، وتبدو رؤية الفيلسوف الفرنسي الوجودي الأشهر، سارتر، عن الأخر بصفته الجحيم، هي السائدة ، ومن يحلل الصراع من موسكو إلى أوكرانيا يكتشف وراءه مشاعر كراهية تحت الجلد بين البلدين، منذ زمان وزمانين. وفي حال أزمة الطاقة وتوقف سلاسل الإمداد، تبدو الأنانية هي الحاكم والمسيطر، حيث تتواري فضيلة إنكار الذات، وترتفع عوضا عنها أنانية راسمالية متوحشة، وليبرالية منفلتة أدت بالعالم إلى حيث هو الآن. إن خطاب الكراهية في تزايد ملحوظ في جميع أنحاء العالم، ويمكن أن نقول إن لجائحة كوفيد-19 دورا ولو كان جزئيا في هذا التزايد. ومن الواقع المعاش في هذه الفترة ، خاصة مع إنتشار الجائحة في جميع أنحاء العالم، أصبحت الكثير من الجماعات العرقية والمذهبية ، وبقية المجتمعات المهمشة، أهدافا لنظرية المؤامرة والوصم بالصور النمطية . لم تفلح المحاولات الكثيرة لصياغة تعريف دقيق لخطاب الكراهية، وهذا جعل من الصعب رصده ومراقبته وتنظيمه. وتثير عبارة “خطاب الكراهية ” مجموعة من الأسئلة، مثل : ما كُنه الكراهية؟ وهل كلمة “كره ” في “خطاب الكراهية ” تعني أن المتحدث تحركه الكراهية أم أنه يريد التحريض على الكراهية لدى المستمع أو المتلقي أم أنه يريد أن يُشعر المتلقي بالكراهية؟ وماذا عن دور السياق في تعريف خطاب الكراهية؟إن المصطلح أو التمثيل الذي قد يتسبب في إساءة عميقة لشخص أو مجموعة قد لا يجده شخص أخر مسببا ، وغالبا ما تفقد المصطلحات المسيئة ضررها بمرور الوقت، والعكس صحيح أيضا، ويبقى دافع المتحدث هو الفيصل. هل يتوجب على العالم أن يقف صامتا أمام مثل ذلك الخطاب، وكأنه قدر مقدور في زمن منظور؟ بشكل عام فإن معظم الجهات تتفق على أن الخطاب لا يكون خطابا محرضا على الكراهية، الإ إذا استهدف مجموعة معينة أو فردا منها، وعلى سبيل المثال فإن قول ” أنا أكرهك ” ليس كلاما يحرض على الكراهية، لكن عبارة ” أكرهك بسبب هويتك، هي خطاب كراهية بإمتياز. ولهذه الأسباب، يجب أن تشرع القوانين التي تسعى إلى مكافحة خطاب الكراهية ضمن سياق قانوني، ومن هنا وجب تعديد أو تسمية المجموعات التي تتمتع بالحماية ، كما يجب أن تحدد الدوافع والسياقات التي تصنف الكلام على أنه خطاب كراهية حتى تكون قوانينا قابلة للتنفيذ. ويمكن أن يبرر هذا اختلاف المعايير القانونية المتعلقة بخطاب الكراهية المُجرم ودرجة الحماية المقدمة للضحايا من دولة لأخرى. والشاهد أن عبئا كبيرا في هذا السياق، يقع كذلك على منظمات المجتمع المدني، والمؤسسات ذات المسحة الحضارية ، تلك التي تعمل على مداواة جروح الكراهية، بل وإستباق الفعل نفسه، وقطع الطريق عليه، وحتى لا تصيب شظاياه بقية المسكونة. من بين تلك المؤسسات يأتي الحديث عن مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات،” كايسيد “، في البرتغال. في أحدث خطط كايسيد لمجابهة الكراهية حول العالم، نجد عدة خطوط متوازية تسعي في طريقها لتبديل الطباع وتغيير الأوضاع ومنها البحث والتوثيق ورصد الإحصاءات المتعلقة بحوادث خطاب الكراهية، عطفا على استخدام ممارسات التعلم التأملي في كل من التعليم الرسمي وغير الرسمي. وبالإضافة إلى ذلك، بلورة مدونة أخلاقية للصحفيين ووسائل التواصل الإجتماعي لمنع خطاب الكراهية، وتاليا إنشاء منصة لتبادل الأفكار بشأن الإعتدال والحوار والعمل معا لتحديد خطاب الكراهية. لقد أمن ” كايسيد ” منذ نشأته بأن للجهات الفاعلة والقيادات الدينية دورا فعالا في مكافحة خطاب الكراهية، وخاصة في خلق بيئة من التعايش السلمي بإستخدام الحوار بين أتباع الأديان والثقافات “. تذكرنا حالة الكراهية المتصاعدة حول العالم، بالأجواء التي ملأت الأرجاء قبل الحرب العالمية الثانية، تلك التي قادت الجميع لاحقا إلى حصاد مر تمثل في أكثر من ستين مليون قتيل، عدا الجرحي والمصابين، والخسائر المالية . ولعل أحد أهم، بل أخطر المسام التي تتسرب منها مشاعر الكراهية، هي وسائط التواصل الإجتماعي المعاصرة ، ففي السنوات القليلة الماضية، تسللت لغة الإقصاء والتهميش إلى لغة الإعلام والمنصات الرقمية والسياسات الوطنية،وهو أمر في حقيقته مفزع، ويمكن أن تتفاقم تبعاته. لقد باتت شبكة الإنترنت اليوم، عالما موازيا في الفضاء الإلكتروني، وأصبحت قادرة على صناعة صيف أو شتاء، أن تنشر المودات، أو تعيث في العالم بمشاعر الكراهية. من هنا يحتاج عالمنا المعاصر إلى بروتوكول أخلاقي، بأكثر من حاجته إلى قوة خشنة، سيما أن الأخيرة إذا نزع منها العامل الإنساني والوجداني، أضحت كارثة وليس حادثة. عالمنا المعاصر في حاجة ماسة لمبادرات خلاقة قادرة على تغيير وجه الخليقة، مبادرات تقول، لا لخطاب الكراهية، ونعم لتغيير وجه العالم إلى الأفضل عبر التسامح والتصالح، ويكفي أن يراجع المرء أضابير التاريخ في النصف الأول من القرن الماضي،ليدرك أن الكراهية لا تفيد، وأن المودات هي من تصنع الحضارات.
مشاركة :