سـرديـات: مجاز العمى والبصيرة في خطاب طه حسين النقدي

  • 6/4/2022
  • 09:15
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تمثل‭ ‬ثنائية‭ (‬العمى‭/‬البصيرة‭) ‬الأنساق‭ ‬الكبرى‭ ‬الظاهرة‭ ‬والمضمرة‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬النقدي‭. ‬لقد‭ ‬أثَّر‭ ‬العمى‭ ‬بشدة‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬خطاباته‭ ‬النقدية‭ ‬المغايرة‭. ‬ومنها‭ ‬آليات‭ ‬المشافهة‭ ‬وتأثيراتها‭ ‬الأسلوبيّة‭ ‬في‭ ‬كتابته،‭ ‬والمبدأ‭ ‬الحواري‭ ‬الذي‭ ‬اعتمده‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬وفي‭ ‬سجالاته‭ ‬النقدية‭ ‬إلى‭ ‬التَكرار‭ ‬وغيرها‭. ‬لقد‭ ‬ألَّف‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬ثلاثة‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬هي‭: (‬تجديد‭ ‬ذكرى‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭)‬،‭ ‬و‭(‬صوت‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭)‬،‭ ‬و‭(‬مع‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬في‭ ‬سجنه‭)‬؛‭ ‬وهي‭ ‬مقاربات‭ ‬نقدية‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬‮«‬التماهي‭ ‬التام‮»‬‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬السرود‭ ‬الطباقيّة‭ ‬التي‭ ‬حرص‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬على‭ ‬إبرازها،‭ ‬وهو‭ ‬يفكِّك‭ ‬نقديًا‭ ‬مجمل‭ ‬خطاب‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬الإبداعي‭ ‬والفكري‭. ‬إنَّ‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المطابقات‭ ‬النقدية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الأمثولة‭ ‬والتماهي‭ ‬تؤكِّد‭ ‬تلك‭ ‬المغايرة‭ ‬النقدية‭ ‬له؛‭ ‬وهي‭ ‬مغايرة‭ ‬نقدية‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬ثنائية‭ (‬العمى‭/ ‬البصيرة‭) ‬في‭ ‬مجمل‭ ‬خطابه‭ ‬النقدي‭.‬ ‭ ‬لقد‭ ‬مثَّل‭ ‬العمى‭ ‬المجاز‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬عوالمه‭ ‬الذاتيّة‭ ‬الشخصيّة‭ ‬وفي‭ ‬مساراته‭ ‬الأكاديميّة‭ ‬والثقافيّة‭ ‬الإبداعيّة‭. ‬إنَّ‭ ‬العمى‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه‭ ‬كان‭ ‬يعني‭ ‬أنَّه‭ ‬‮«‬يحمل‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬كلِّ‭ ‬مكان‭ ‬زنزانة‭ ‬سجن‭ ‬العمى‭ ‬المحمولة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬خورخي‭ ‬لويس‭ ‬بورخيس‭. ‬شكَّلت‭ ‬تجربة‭ ‬العمى‭ ‬الحدود‭ ‬والتخوم‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬عوالمه‭ ‬عن‭ ‬الآخرين‭. ‬لقد‭ ‬تماهى‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬المطابقة‭ ‬التامة‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭ (‬الأيام‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬كتبه‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬مسارات‭ ‬زمنية‭ ‬متباعدة‭: (‬تجديد‭ ‬ذكرى‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭)‬،‭ ‬و‭(‬صوت‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭)‬،‭ ‬و‭(‬مع‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬في‭ ‬سجنه‭)‬؛‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يؤشِّر‭ ‬إلى‭ ‬امتداد‭ ‬علاقة‭ ‬التماهي‭ ‬لتمثِّل‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬أليجوريا‭ ‬رمزية‭ ‬كبرى‭ ‬عند‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الأكاديمي‭ ‬الناقد‭ ‬والأديب‭ (‬العمى‭ ‬عورة،‭ ‬إحداثيات‭ ‬العزلة،‭ ‬الكتابة‭ ‬العمياء،‭ ‬والبلاغة‭ ‬العمياء،‭ ‬والانسحاب‭ ‬من‭ ‬العالم‭).‬ وإذا‭ ‬كانت‭ ‬أطروحة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الأولى‭ (‬تجديد‭ ‬ذكرى‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭) ‬صادرة‭ ‬عن‭ ‬منهجية‭ ‬تاريخيّة‭ ‬صارمة‭ ‬في‭ ‬التأريخ‭ ‬والشرح‭ ‬والتأويل‭ ‬في‭ ‬تتبع‭ ‬زمني‭ ‬لمسارات‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬فإنَّ‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬سيفارق‭ ‬هذه‭ ‬الروح‭ ‬العلمية‭ ‬النقدية‭ ‬الصارمة‭ ‬في‭ ‬كتابيه‭ ‬التاليين‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬وهما‭ (‬صوت‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭) ‬و‭( ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬في‭ ‬سجنه‭)‬،‭ ‬وسيتخفف‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الصرامة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الانعتاق‭ ‬من‭ ‬عدة‭ ‬الناقد‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬علميّة‭ ‬وصرامة‭ ‬منهجيّة‭. ‬لقد‭ ‬توحَّد‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬مع‭ ‬صوت‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬المطابقة‭ ‬والانصهار‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬صوت‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭) ‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬أجد‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬أعذب‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬وأحب‭ ‬إلى‭ ‬القلب‭ ‬من‭ ‬كلِّ‭ ‬صوت‭ ‬ومن‭ ‬كلِّ‭ ‬صدى‮»‬‭. ‬إنَّ‭ ‬الحب‭ ‬عند‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬الناقد‭ ‬جابر‭ ‬عصفور‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬المرايا‭ ‬المتجاورة،‭ ‬دراسة‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬طه‭ ‬حسين‭) ‬هو‭ ‬حالة‭ ‬تعرف‭ ‬على‭ ‬الذات،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عمل‭ ‬أدبي‭ ‬يتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬مرآة‭ ‬لها،‭ ‬وكلما‭ ‬ازداد‭ ‬هذا‭ ‬التعرف‭ ‬ازدادت‭ ‬نشوة‭ ‬هذه‭ ‬الأنا،‭ ‬وشعرت‭ ‬بتلك‭ ‬البهجة‭ ‬النرجسية‭ ‬التي‭ ‬تعانيها‭ ‬عندما‭ ‬نجد‭ ‬صورتنا‭ ‬منعكسة‭ ‬في‭ ‬غيرنا،‭ ‬وهو‭ ‬اهتمام‭ ‬يؤكد‭ ‬تحوُّل‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬المعرفية‭ ‬والنقدية‭ ‬للحب‭ ‬إلى‭ ‬مرآة‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬سوى‭ ‬ما‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬ذاتها،‭ ‬وليس‭ ‬ما‭ ‬يوجد‭ ‬خارجها‭. ‬إنَّ‭ ‬ثنائية‭ ‬الحب‭/‬الكره‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬أبا‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬نقيضًا‭ ‬لبشار‭ ‬بن‭ ‬برد‭ ‬والمتنبي‭ ‬على‭ ‬السواء‭ ‬وقرينًا‭ ‬لأبي‭ ‬العلاء‭. ‬إنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬الحاد‭ ‬بالعزلة‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬حوَّل‭ ‬كتاب‭ (‬صوت‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭) ‬إلى‭ ‬سيرة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذاتية‭ ‬المقنعة‭ ‬والموازية‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬التماهي‭ ‬مع‭ ‬سيرة‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬الشخصيّة‭ ‬الإبداعيّة،‭ ‬ويتحوّل‭ ‬أبو‭ ‬العلاء‭ ‬في‭ (‬مع‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬في‭ ‬سجنه‭) ‬إلى‭ ‬أديب‭ ‬يتدفق‭ ‬حديث‭ ‬الحب‭ ‬الشجي‭ ‬وفي‭ (‬صوت‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭) ‬نجد‭ ‬تلك‭ ‬المفارقة‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬مكنت‭ ‬الناقد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬أصول‭ ‬الفلسفة‭ ‬العلائية‭ ‬بأكملها‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬كافكا‭.‬ وفي‭ (‬مع‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬في‭ ‬سجنه‭) ‬تشتغل‭ ‬لعبة‭ ‬السّرد‭ ‬المتخيّل‭ ‬لتستحضر‭ ‬تلك‭ ‬المحاورة‭ ‬المتخيّلة‭ ‬بين‭ ‬الناقد‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬والشاعر‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري،‭ ‬ويتحوّل‭ ‬السجن‭ ‬إلى‭ ‬موازٍ‭ ‬رمزي‭ ‬لكلِّ‭ ‬ما‭ ‬يحول‭ ‬بين‭ ‬فصل‭ ‬الناقد‭ ‬والشاعر‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬التمثيلات‭ ‬الكنائيّة‭ (‬الأليجورية‭ ‬الكبرى‭). ‬لم‭ ‬تتسق‭ ‬علاقة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬بالمعري‭ ‬اتساقًا‭ ‬نمطيًا‭ ‬واحدًا،‭ ‬بل‭ ‬تباينت‭ ‬كلما‭ ‬مضى‭ ‬به‭ ‬العمر‭: ‬من‭ ‬الكره‭ ‬الشديد‭ ‬إلى‭ ‬الإعجاب‭ ‬والحب‭ ‬المطلق‭ ‬إلى‭ ‬التوسط‭ ‬الرمزي‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الناقد‭ ‬يستولي‭ ‬على‭ ‬صوت‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬وينطق‭ ‬باسمه‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬ملتبسة‭!‬ ‭ ‬تجترح‭ ‬فدوى‭ ‬مالطي‭ ‬دوجلاس‭ ‬في‭ (‬العمى‭ ‬والسيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬دراسة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الأيام‭ ‬لطه‭ ‬حسين‭) ‬مصطلح‭ (‬الكتابة‭ ‬العمياء‭)‬،‭ ‬و‭(‬الكتابة‭ ‬العمياء‭) ‬لديها‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬ببساطة‭ ‬نسج‭ ‬تجربة‭ ‬بطل‭ ‬أعمى‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬قيامها‭ ‬بوظيفة‭ ‬النسخ‭ ‬هذه‭ ‬ظاهريًا‭. (‬الكتابة‭ ‬العمياء‭) ‬تميل‭ ‬بطبيعتها‭ ‬إلى‭ ‬الإيحاء‭ ‬بوجود‭ ‬شخصية‭ ‬فاقدة‭ ‬البصر‭ ‬أو‭ ‬بتكوين‭ ‬نظرة‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬للعالم‭ ‬بينما‭ ‬توحي‭ ‬الكتابة‭ ‬المبصرة‭ ‬بوجود‭ ‬شخصية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الرؤية‭. ‬إنَّ‭ ‬الصوت‭ ‬العقلاني‭ ‬الصارم‭ ‬الشاك‭ ‬للناقد‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬في‭ (‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭) ‬يتبدل‭ ‬ليحل‭ ‬محله‭ ‬صوت‭ ‬عاطفي‭ ‬متعاطف‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬القديم‭ ‬المسكين‭ ‬في‭ (‬حديث‭ ‬الأربعاء‭)‬،‭. ‬ويتبدل‭ ‬نهج‭ (‬تجديد‭ ‬ذكرى‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭) ‬بقواعده‭ ‬التاريخية‭ ‬لتحل‭ ‬محلها‭ ‬قواعد‭ ‬مغايرة‭ ‬لنهج‭ ‬مغاير‭ ‬في‭ (‬مع‭ ‬المتنبي‭). ‬وبعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬عقود‭ ‬على‭ ‬وفاته‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬يشغل‭ ‬النقاد‭ ‬والباحثين‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬خطابه‭ ‬النقدي‭ ‬المغاير‭.‬   {‭ ‬أستاذة‭ ‬السَّرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

مشاركة :