عكس التصعيد البرلماني في مصر ضد جهات حكومية مؤخرا تنامي الشعور لدى بعض دوائر الحكم بأن هناك حالة من الرعونة والتنصل من المسؤولية في التعامل مع المشكلات الجماهيرية، بسبب وجود تضارب في المسؤوليات وإصرار بعض المؤسسات على التهرب من الأزمات وإلقاء العبء على غيرها لتتجنب المحاسبة. وفتح استدعاء محمد شعراوي وزير التنمية المحلية إلى البرلمان لمواجهته بأزمات المحليات، الباب لمناقشة واحدة من الإشكاليات المعقدة التي تواجه الحكومة، حيث أصبح النواب لا يعرفون بالضبط من يحاسبون، فهناك مسؤولون في وزارة النقل تبرأوا من عملية تهالك الطرق الفرعية، وألقوا بها على عاتق المحليات كجهة مسؤولة عن الترميم والإصلاح والرصف. وتقبل الوزير شعراوي الانتقادات الموجهة للجهة التي يتولى الإشراف عليها بالصمت كي لا يبدو أن هناك صراعا داخل الحكومة أو عدم تنسيق في أداء المهام. التهرب من المسؤولية يقود إلى ما هو أبعد من إحراج الحكومة أمام الشارع، لأن ذلك يتسبب في فجوة بين الجهات الرسمية وعندما تطرق علي مصيلحي وزير التموين والتجارة الداخلية لأزمة نقص توريد القمح من المزارعين، حمل كلامه اتهامات لبعض المحافظين التابعين لوزارة التنمية المحلية أيضا باعتبارهم “عين الحكومة” في الأقاليم والمسؤولين عن تطبيق القواعد التي أقرتها الحكومة في هذا الشأن. لكن رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي رفض إلقاء المسؤولية على عاتق الحكومة وحدها في أزمة القمح، مؤكدا أن الملف مهمة الجميع وحث على ضرورة العمل بروح الفريق. ومع ذلك اتهم مدبولي في اجتماع له قبل أيام المحافظين بالتقصير والبطء في حل مشكلات المواطنين والتهرب من التعاون مع أعضاء البرلمان لتذليل المشكلات المرتبطة بالجمهور، مهددا بأنه سيتابع هذا الملف بشكل شخصي. وبدت هذه النبرة حادة وغير معتادة من قبل رئيس الحكومة في تعامله مع المسؤولين، لكنه شعر بأن التهرب من المسؤولية تحول إلى أزمة قد تكون لها تداعيات سياسية. ويعمق استسهال المسؤولين التنصل من المهام الموكلة إليهم في الملفات الجماهيرية من اهتزاز صورة الحكومة أمام المواطنين في توقيت بالغ الحرج من المفترض فيه أن تتوحد جميع الجهات لتذليل العقبات التي تقف حائلا أمام إرضاء الناس بعدما أصبحوا متذمرين أكثر من أي وقت مضى بسبب الظروف المعيشية الصعبة. سعيد صادق: المعضلة الأكبر تكمن في تشكيك المواطن العادي في تسويق بعض المؤسسات الحكومية لإنجازاتها وبات تضارب المسؤوليات عنوانا في تعامل بعض الوزارات مع الملفات الشائكة، خاصة الخدمية، ما انعكس على صورة الحكومة باعتبار أن الوزراء وكبار المسؤولين فيها لا يكترثون بالبحث في شكاوى الناس بقدر ما يسارعون إلى إعفاء أنفسهم من المحاسبة وإلقاء العبء على مؤسسات أخرى شريكة في الأزمة. واستدعى مجلس النواب أخيرا مسؤولين بوزارة الاتصالات لسؤالهم عن أزمة انقطاع الإنترنت وسقوط سيستم الامتحانات الإلكترونية لطلاب الثانوية العامة (البكالوريا)، لكنهم سارعوا بإعفاء الوزارة من مسؤوليتها عن أزمة تركت انطباعات سلبية بالغة عند الأهالي، وحملوها لوزارة التعليم. وتبدو ثقافة تبرئة المسؤولين وإلقاء التهمة على جهات أخرى ظاهرة حديثة، حيث كان كل مسؤول يتعرض لانتقادات يرد مباشرة بما لديه من معلومات أو يلتزم الصمت دون أن يوجه أصابع الاتهام لمؤسسات شريكة في الأزمة حتى لا تصبح الحكومة في صراع بين أجنحتها المختلفة. وقال سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة إن التهرب من المسؤولية يعكس الخلل الذي صارت تعاني منه بعض المؤسسات وعجزها عن وضع حلول للمشكلات المتلاحقة. وأضاف لـ”العرب” أن هذه الأزمة تمس الحكومة وتظهرها أمام الشارع كأنها غير قادرة على أداء مهامها في ملفات تمس اهتمامات الناس، طالما أن لديها مؤسسات تستسهل الهروب من المواجهة والتعويل على لوم الآخرين لإظهار النجاح الذاتي. وتبرهن بعض الأصوات على ذلك بأن وزارة الاتصالات شريك رئيسي في التخطيط للامتحانات الإلكترونية، لأنها مسؤولة عن الجانب التقني، لكنها تنصلت من مسؤولية سقوط “السيستم” أو النظام المعمول به في الامتحانات، وتركت وزارة التعليم تواجه غضب الأهالي وتحدثت عن تربع مصر على قائمة أفضل دول أفريقيا من حيث جودة وسرعة الإنترنت، وهو خطاب يكذبه الواقع. وواجه الحديث عن إنجاز وزارة الاتصالات حالة من السخرية على شبكات التواصل الاجتماعي التي تعتبر أنها مقياس لتوجهات الرأي العام في مصر، فكيف أن الحكومة لديها أقوى شبكة إنترنت في القارة ولا تستطيع عقد امتحانات إلكترونية، وهي تساؤلات عززت لدى الناس فكرة عمل الجهات الحكومية في جزر منعزلة. ثقافة تبرئة المسؤولين وإلقاء التهمة على جهات أخرى ظاهرة حديثة، حيث كان كل مسؤول يتعرض لانتقادات يرد مباشرة بما لديه من معلومات أو يلتزم الصمت دون أن يوجه أصابع الاتهام لمؤسسات شريكة في الأزمة وأضاف سعيد صادق أن المعضلة الأكبر تكمن في تشكيك المواطن العادي في تسويق بعض المؤسسات الحكومية لإنجازاتها، فكل جهة تتحدث عن نفسها فقط، وترى أنها حققت نتائج عظيمة في الملف الموكل إليها، بغض النظر عن النجاح الذي حققته جهة أخرى في الملف نفسه من عدمه، وهذا نتاج العمل في جزر منعزلة بين العديد من المؤسسات بشكل لا يقنع الشارع بوجود نتائج إيجابية كبيرة. وتتحدث وزارة النقل عن إنجازات غير مسبوقة حققتها الحكومة في قطاع الطرقات خلال فترة حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي، وتغفل تذمر الناس من تهالك الشوارع داخل القرى والأحياء والمدن وتحاول إلقاء المسؤولية على الإدارات المحليات لتبتعد عن الجمهور الغاضب من تهالك المرافق الحيوية في العديد من الأقاليم. ويقود تكرار التهرب من المسؤولية إلى ما هو أبعد من إحراج الحكومة أمام الشارع، لأن هذه السياسة تتسبب في فجوة بين الجهات الرسمية، وقد تسعى كل جهة لتوريط الأخرى باعتبار أنها عمدت التقليل من جهودها ولم تعاونها في إيجاد حل للأزمة، بقدر ما عملت على تجميل صورتها أمام الجمهور وصانع القرار. وتعكس هذه المعطيات لأي درجة أصبح العديد من المسؤولين في المنظومة الحكومية فاقدين للحنكة السياسية والخبرة في مخاطبة الجمهور والعمل في بيئة جماعية من أجل حل المشكلات المتراكمة بشكل يؤثر سلبا على صورة النظام الحاكم، ما يجعله يبدو عاجزا عن نيل رضا الناس ولو حقق طفرات وقضى على أزمات متجذرة. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :