'توتة محبوب' تناقش قرنين من تحولات القرية المصرية

  • 6/13/2022
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

تتميز رواية "توتة محبوب" الصادرة عن دار هلا للنشربالقاهرة، للكاتب والخبير الاقتصادي  دكتور صلاح شعير، والتي تدور أحداثها بقرية أم السواقي المصرية، بأنها رومانسية، اجتماعية، تاريخية، حيث يقوم تكنيكيها على الحبكة الحديثة، إذ ينطلق الزمن من الحاضر متعرجًا، ليرتد إلى الخلف بالقدر الذي يسمح بالوقوف على جوهر التراث القروي؛ ثم الانطلاق نحوالمستقبل بكل ما هو جديد، وهذا يجعل من الرواية  كأنها شريطٌ سينمائيٌّ مُتحرِّك، تنقل من خلاله صورة القرية المصرية لأكثر من قرنين من الزمان، حيث يسلِّط المؤلِّف الضوء حول عدة مفاهيم؛ منها: أثر الجنس على سلوك الفرد، قوَّة رأس المال، سيطرة القويّ على الضعيف، قهر المرأة، كيف تغتصب العائلات بعضها البعض، وأثر كل من هذه العوامل على النسيج الاجتماعي في مصر. وتطرح الروايةُ في إطارٍ دراميٍّ شائق، مجموعةً من التساؤلات حول فلسفة الحياة، بعضُها مُغلَّف بجاذبيَّة الأساطير القرويَّة، والبعض الآخر مُطرَّز بالأحداث التاريخيَّة، منها ما هو مذكور كخلفيَّة ليس أكثر؛ ومنها ما هو قائمٌ على حقائق صِيغَت بشخصيَّات مبتكرة، كل هذا يُنشِّط مُخيِّلة المُتلقِّي؛ بصورةٍ تجعله في حَيْرةٍ وترقُّبٍ طيلة القراءة؛ لأن عبَق التاريخ بداخل النص الأدبي؛ يعكس صرخات المُهمَّشين؛ بوجهة نظر إنسانيَّة في المقام الأول. ويمثل الصراع  الداخلي والخارجي للشخصيات مادة  ثرية للتعبير عن المحتوى، أضف إلى ذلك  تضارب الأهداف بالنسبة للفرد، أو بداخل المجتمع الريفي نفسه،حيث جشع الإقطاعيين، والمماليك، وشيخ البلد، والصراف،وقائم مقام،والإنجليز، والعمدة، وأستاذ الجامعة المراهق، والموظف المرتشي، ورب العمل الجشع، ووهدان صاحب وابور الطحين، وظريف النجار، ومنجدة العوراء، وغيرهم من أهل الشر، حيث يمارس كل هؤلاء أبشع أنواع  القهر ضد  المستضعفين  من عمال العنونة، وعائلة محبوب الكبير، وعديلة ومرزوق، وعوض الممسوس، وخضر،  وستهم الجحش، وغيرهم من الفلاحين والفلاحات. يمثل هذا الصراع عبر الزمن نموذجًا لمأساة الفلاحين المصريين على مر العصور، والذين تحولوا مع الوقت بعد الخلاص من نيران الاستعباد إلى بناة للحضارة المصرية في العصر الحديث، فعندما سُمح لهم بدخول الجيش منذ عهد محمد على باشا، سطروا أروع البطولات العسكرية، وعندما فتحت أمامهم أبوابالعلوم، أصبحوا حملة مشاعل التنوير، وهذا يعكس مدى صلابة الفلاح المصري فيما يوكل إليه من مهام في ظل مبدأ تكافئ الفرص. كما يدور السياق الدرامي والأحداث حول يوميات "عايدة"، تلك الفتاة صارخة الجمال، والتي تغار منها النساء، ويلهث خلفها الرجال، تلك الأبنة الأخيرة في عائلة محبوب، تحمل هموم الدنيا فوق رأسها،حيث مرارة الواقع  سيفًا فوق أحلامها، تقيدها أغلال الحقد من كل جانب وخاصة زميلتها أسماء أبو علم، ومع ذلك  ثمة سريكمن بداخلها، أنها قوة تدفعها  نحو التمسك بالأمل القادم، ورغم أن بعض النسوة بالقريةيشبهونها  بالنداهة،؛ التي تسحب الرجال نحو الموت، إلا أنها بريئة مما يحدث لعشاقها من مأزق أو أخطار، هي لا  تريدهم  أن يتصارعوا مع بعضهم البعض من أجلها، أو من أجل أن يظفروا بها، للاستمتاع بأنوثتها الطاغية، جسدها الذي يلهب الرغبات، يلهب في ذات الوقت الحسرات في قلبها، لقد أصبحت مقيدة وحبيسة في عيون صائدي المتعة، يتابعونها، يقتحمون خصوصياتها، باتت نعمة الجمال مصدرًا لعذابها، كل هذا يشعل بداخلها  نيران الأفكار المتضاربة. ورغم كل ذلك لا يثنيها الفقر أو الصراع الدموي الدائر من حولها عن تحقيق الهدف في الحصول على مؤهل عال، أو التخلي عن حبيبها "حمدي دولار"،  لقد شاهدت الدنيا وهي  بأسفل القاع، هذا منحها فرصة للتعرف على النفوس المتعفنة، ، لأن الجلادين  لا يتجملون عند السير بالأحذية فوق رقاب المستضعفين، تحولت بفعل الضغوط الاجتماعية إلى اعتناق فلسفة جديدة عليها، أدمنت  التفكر بعمق في كل ما يدورمن حولها،  فما يؤرقها  هو تغير تصرفات بعض أبناء الفقراء عندما تتحسن ظروفهم، هذا ما يسبب لها الحيرة: "وتتساءل لماذا يتحول أحفاد المقهورين في هذه الدنيا فوق الأرض؟  لماذا عندما تنصف الأيام بعضهم؛ يتصرفون بنفس منطق الجلادين؟ يكررون أفعال الظالمين الذين قهروهم في أصلاب أجدادهم؟" لقد رصدت الرواية التحول في سلوكيات الأجيال، لأن التقلب في السلوك البشري من النقيض إلى النقيض، لا يعكس إلا نتائج الصدمة النفسية، الاقتصادية والسياسية التي يتعرض لها المجتمع، حيث تصرفات البشر تتبدل في كل دورة من دورات الحياة، ويصبح الإنسان إما مقهورًا أو قاهرًا، الوجوه على مر كل العصور  تكاد أن تكون متشابهة، الفرق هو تبدل الاسماء والأماكن، أو اختلاف الأساليب المستخدمة في القهر، ويكشف لنا المؤلف أن ما  يفسد فطرة البشر، سطوة المال المقترن بالغرور؛  لأنه يخرج  الإنسان عن إنسانيته، وهذا يجعل "عايدة" تتساءل: "هل المال حقًا يعطي الشعور بالسعادة ام أنه يعطي شعور وهمي بالسعادة؟. في هذا النموذج المصغر من المجتمع، في  قرية "أم السواقي"، تشتعل العديد من المواجهات ذات الطابع القبلي أو العنصري على أساس المال أو النفوذ، ويحول كل فرد  إشباع رغبةملحة في نفسه،  كرغبة ظريف النجار في سكينة الحلو، ورغبة وهدان أبو طاقية في زوجة الخفير الجميلة، ورغبة العمدة في أم الخير الفاتنة، ورغبة شباب القرية في عايدة، علاوة على الرغبة في الاستحواذ على المال بأي طريقة، القاسم المشترك في كل هذه الرغبات  في أنها غير مشروعة، والجميع لا يستطيعوا الكشف عنها علانية عن هذه الرغبات، ويتحركون لانتزاعها عنوة، للأسف أن هذا سوف يستمر محركًا لسفك الدماء فوق الأرض، حيث تمتزج المتناقضات التي تهدم الاستقرار، لقد نجحت الرواية في التمهيد لكل هذه المعاني وغيرها، منذ  الفصل الأول إلى النهاية، من خلال توظيف الغموض حول هوية الجد الأكبر "محبوب "، وهل كان من الأخيار، أم من اللصوص؟ وأيضًا من خلال الحكاوي المجتمعية المتنوعة، التي تكشف عن التطورات التي طرأت على المجتمع المصري، محذرة منخطورة اختفاء الطبقة الوسطى. ورغم كل الصور السلبية التي تم طرحها، إلا أن الرواية تميزت بأنها محاولة للدفع نحو السير في الاتجاه الإيجابي، وذلك بإبرازالجانب النبيل لدى البشر؛ وخاصة الأفكار التي تحث على التعاون،والتكافل الاجتماعي، وحب الوطن، والتسامح، وذلك من أجل إعادة بناء الإنسان في كافة المجالات بما يحقق الخير للجميع.

مشاركة :