في العراق يحدث ما لا يحدث في أي مكان آخر على وجه الكرة الأرضية. ومن عجائب ذلك الكوكب أن يتقدم الطرف المنتصر في الانتخابات التشريعية بطلب إعادة الانتخابات لا لشيء إلا لأنه عاجز عن تأليف حكومة جديدة. ذلك ما يمكن أن يفعله مقتدى الصدر في أي لحظة. لقد قدم رجل الدين والسياسي غير مرة دليلا على أنه ليس مؤهلا لأن يكون رجل دين أو سياسيا. فحين يُترك بلد من غير حكومة وبعهدة حكومة لا تملك صلاحيات فذلك يعني أن المسؤول عن ذلك لا يملك ورع رجل الدين ونزاهته وصدقه وحكمته ولا حنكة السياسي ومهارته. في حقيقة أمره فإن الصدر ينتمي إلى طبقة حزبية مزجت الدين بالسياسة فأفقدتهما خصوصيتهما وخربت كل العناصر النزيهة فيهما عن طريق فساد غير مسبوق في التاريخ البشري. حين يتعلق الأمر بعراقيي السلطة يمكن للمرء أن يقول إنه لم يلتق في حياته رجال دين بمثل ذلك السوء ولم يسمع بسياسيين بتلك السمعة السيئة. ورغم ذلك فإنهم يعدون أنفسهم بالبقاء في الحكم إلى أن يتوفاهم الله أو يذبح بعضهم البعض الآخر كما يحدث دائما في العراق. سبق للصدر أن بشر ناخبيه بأنه سيذهب إلى المعارضة. تلك مكافأته لهم. فبدلا من أن يحقق أمنياتهم التي سعوا لها من خلال هزيمة الأحزاب والميليشيات الولائية، يسلم الصدر الحكومة إلى خصوم الشعب المهزومين لينتقموا منه بسبب ما فعله بهم. شيء يذكر بشخص نال جائزة كبيرة فيقرر أن يقفز من نافذة قطار مسرع. وكما يبدو فإن الشعب اختار أن يقدم هبته لمَن لا يستحقها. ليس الصدر مؤهلا لكي يكون زعيما سياسيا وهو لا يصلح أن يكون بديلا لسياسيي النظام لأنه من طينتهم حتى وإن كرهوه وكرههم. ما يجمعه بهم أكبر مما يفرقه عنهم. ولكن حيرة الشعب في مَن يقترع له أكبر من دهشته بسلوك مقتدى الصدر الذي لا يدل على أن الرجل يتميز بأي من الصفات التي تؤهله لقيادة مرحلة الإصلاح ومحاربة الفساد. فما من سياسي سوي يفوز في الانتخابات ويهدد بسحب نوابه من مجلس الشعب. إنها فكاهة سوداء لو سمع بها أي إنسان لاعتبرها حدثا يقع على المسرح وليس في الواقع. ذلك ما يدفعنا إلى التساؤل عن نوع النظرة التي يتعامل الصدر من خلالها مع الشعب. لا أعتقد أن سياسيا يحترم شعبه يمكن أن يقوم بما يقوم به الصدر. إذا كان هناك من يعيق عملك السياسي فعليك أن تكاشف الشعب الذي وضع فيك ثقته. قل كلمة من أجل أن ينجلي كل هذا الغموض الذي يحيط بسلوكك. لقد تأخر الوقت على سؤال من نوع “مَن أنت؟”. من المؤكد أن الشعب الذي وضع الصدر على رأس المنتصرين في الانتخابات لم يفكر إلا بإلحاق الهزيمة بأتباع إيران. ذلك ما كان على الصدر أن يضعه في حسبانه ليثبت للشعب جدارته بذلك الانتصار. غير أنه لم يفعل شيئا من ذلك القبيل حين لجأ إلى المبارزات الخائبة. مرة يدعو خصومه إلى تأليف الحكومة ليذهب هو إلى المعارضة ومرة أخرى يهدد بسحب نوابه من مجلس الشعب وقد يعتزل الحياة السياسية كما فعل ذلك من قبل مرات عديدة. لا يرى الصدر في الشعب إلا حشود الفقراء الذين لم يفعل لهم شيئا إيجابيا عبر السنوات الماضية التي قضاها وهو يتمتع بثروات العراق، نصيبه من نظام المحاصصة الحزبية. ألم يصفهم في لحظة من لحظات انفعاله بالجهلة؟ فعل ذلك وهو لا يقيم وزنا لجمهور، صار يرى الشعب العراقي كله من خلاله. وهو إذ يضرب المهل الدستورية عرض الحائط فلأنه لا يرى في الدستور قوة قانونية يمكن أن تطرده خارج العملية السياسية بسبب أعماله الصبيانية فما الدستور بالنسبة إليه ولغيره من أفراد ما يُسمى جورا بالطبقة السياسية سوى كذبة، كان السيستاني قد دفع الشعب إلى تصديقها والتوقيع عليها من أجل أن يُنهى العراق الموحد ليكون هناك عراق المكونات التي لا يمكن أن تتفق على شيء. العراق الجديد هو عراق مقتدى الصدر. عراق التهريج والفكاهات السوداء وأولاد الشوارع وذكريات جيش المهدي والنزعة العبثية وتعطيل قيام دولة وكراهية القانون والهمجية التي لا تحتاج إلى خدمات كالتعليم والكهرباء والصحة وماء الشرب ولا إلى الزراعة أو الصناعة أو الجيش القوي. عراق مقتدى هو بلد العجائب التي لا تحدث في أي مكان آخر.
مشاركة :